قرأ إمامنا في صلاة العشاء من سورة النمل ابتداء من قوله -تعالى-: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} وانتهى بقراءة (64): {أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.

خرجت وصاحبي بعد الصلاة، نريد زيارة أخ لنا في ديوانه.

– لا يملك أحد يسمع هذه الآيات إلا أن يقول كلمة: «لا إله إلا الله»، وقد ورد قول الله -سبحانه وتعالى-: {أإله مع الله}، وتكرر هذا السؤال التوبيخي لمن يشرك بالله، خمس مرات في هذه الآيات من سورة النمل.

– ورد في بعض كتب التفسير أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يقول: «بل الله خير وأبقى وأجلّ وأكرم».

– نعم هذه الآيات تخاطب العقل والقلب والروح، ويتحدى فيها الله -عز وجل- كل من يشرك به، ويعبد إلهاً غير الله، أو مع الله، ولا يفرد الله بالعبادة. يتحداهم الله في هذه الآيات، بأنه -سبحانه- خلق السموات والأرض، ولا يمكن لأحد أن يزعم أنه خلقهما، كما أنه -سبحانه- ينزل المطر من السماء متى شاء؛ حيث شاء وبمقدار، ولا يمكن لأحد أن يزعم أنه يفعل ذلك، وأنه -سبحانه- جعل الأرض مستقرا لخلقه وهيأها بما يضمن صلاحها للعيش.

قاطعني.

– ينبغي أن يتدبر المرء خاتمة كل آية، ليكتمل المعنى، ففي الآية الأولى يقول -سبحانه-: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (النمل:60)، (بل) هنا تعني (لكن)، فهو استدراك، بأن ثبت ألا أحد يفعل شيئاً مما ذكره الله في هذه الآية، فإعراضهم ليس إلا مكابرة؛ حيث يجعلون لله عدلاً ومثيلاً، مع أنه عاجز عن كل ما ذكره في الآية، وفي الآية الثانية ذكر الله أحوال الأرض والأنهار والجبال والفاصل بين العذب والأجاج، وهذه تحتاج إلى تدبر وعلم؛ فقال -سبحانه-: {بل أكثرهم لا يعلمون}، وفي الآية الثالثة ذكر حال الإنسان عند ضعفه وقلة حيلته، وهذا مشاهد معروف عند الجميع، فإنه إذا انقطعت به الأسباب يلجأ لربه الذي في السماء، وختمها بقول: {قليلا ما تذكرون}؛ لأن غالب البشر ينسى اضطراره إذا انكشفت مصيبته.

وهكذا تستمر الآيات في بيان انفراد الله -عز وجل- ونفي الشريك عنه بالأدلة العقلية والكونية والنفسية، ثم يتحداهم الله -عز وجل- بقوله: {أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (النمل:64).

وجاء في تفسير هذه الآيات:

أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم – أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته.

وقيل: اللفظ لفظ الاستفهام {أإله مع الله} ومعناه الخبر.

{ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} أي ما كان للبشر، ولا يتهيأ لهم تحت قدرتهم، أن ينبتوا شجرها؛ إذ هم عجزة عن مثلها؛ لأن ذلك إخراج الشيء من العدم إلى الوجود.

{أمن يجيب المضطر إذا دعاه}، المضطر: اسم مفعول من الاضطرار: وهو المكروب المجهود الذي لا حول له ولا قوة؛ فالمظلوم مضطر، ويقرب منه المسافر، وكذلك دعوة الوالد على ولده،لا تصدر منه مع ما يعلم من رحمته به وشفقته عليه، إلا عند تكامل عجزه عنه، وصدق ضرورته، وإياسه عن بر ولده، مع وجود أذيته، فيسرع الحق إلى إجابته.

والوجه في إجابة المضطر، أن ذلك الاضطرار الحاصل له يتسبب عنه الإخلاص، وقطع النظر عما سوى الله، وقد أخبر الله -سبحانه- بأنه يجيب دعاء المخلصين له الدين، وإن كانوا كافرين؛ فقال: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (يونس:22)، وقال: {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} فأجابهم عند ضرورتهم، وإخلاصهم مع علمه بأنهم سيعودون إلى شركهم.

{أمن يبدؤ الخلق ثم يعيده} كانوا يقرّون أنه الخالق الرازق؛ فألزمهم الإعادة، أي إذا قدر على الابتداء فمن ضرورته القدرة على الإعادة، وهو أهون عليه. {أإله مع الله} يخلق ويرزق ويبدئ ويعيد: {قل هاتوا برهانكم} أي حجتكم أن لي شريكا، أو حجتكم في أنه صنع أحد شيئا من هذه الأشياء غير الله {إن كنتم صادقين}.

وجمله {أإله مع الله} استئناف، أي كالنتيجة للجملة قبلها؛ لأن إثبات الخلق والرزق والإنعام لله -تعالى- بدليل لا يسعهم إلا الإقرار به؛ فينتج أنه لا إله معه.

– كلام جميل، ولا يسع أي عاقل منصف إلا أن يقول: «لا إله إلا الله» مع كل آية من هذه الآيات، ولا يشرك بالله إلا معاند، جاحد، مبغض للحق؛ لأن هذا التحدي، كان منذ خلق الله السموات والأرض، وتلاه الرسول – صلى الله عليه وسلم – منذ أنزل القرآن، وهو قائم إلى يوم القيامة، فمن أراد الحق هداه الله، وهذا معنى قوله -سبحانه-: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (النحل:93).