من فضل الله على الناس أنه أعلمهم بما يحتاجون معرفته من أمور الغيب، فليس على من يريد الحق إلا أن يثبت أن محمدا – صلى الله عليه وسلم – رسول من عند الله، وأن القرآن الكريم منزل من عند الله، وقد ثبت هذا في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – بالمعجزات التي لا مجال لإنكارها، مع أن كفار قريش كانوا أحرص الناس على إثبات بطلان بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – وعلى أن القرآن ليس من عند الله، وكانوا أكثر الناس أهلية لهذا التحدي، ولكنهم عجزوا مع ما أوتوه من مقومات التحدي وأسباب التصدي، فثبت لديهم، ومن باب أولى لدى غيرهم، أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – حق، وأن القرآن حق، فلا حاجة للرجوع مرة أخرى إلى نقطة البداية.

– كلام منطقي سليم، لمن أراد معرفة الحق واتباعه.

كنت وصاحبي نمشي في الأحياء المجاورة لسكننا بعد صلاة العشاء، نتريض قبل الرجوع إلى بيوتنا.

– لذلك يقيم الله الحجة على من أنكر البعث، ومن شك فيه، بآيات بينات، لا يملك العاقل المنصف إلا أن يقبلها ويؤمن بها، ومن ذلك قول الله -تعالى:

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الجاثية:25-26).

قوله -تعالى-: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي: وإذا قرأت على هؤلاء المشركين آياتنا المنزلة في البعث لم يكن ثم دفع {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا}، الموتى نسألهم عن صدق ما تقولون، فرد الله عليهم بقوله: {قل الله يحييكم} يعني بعد كونكم نطفا أمواتا {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} كما أحياكم في الدنيا، {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أن الله يعيدهم كما بدأهم. فإن قلت لم سمى قولهم حجة وليس بحجة؟ قلت: لأنهم أدلوا به كما يدلي المحتج بحجته، وساقوه مساقها فسميت حجة على سبيل التهكم، أو لأنه في حسبانهم وتقديرهم حجة، كأنه قيل: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة. والمراد نفي أن تكون لهم حجة البتة. فإن قلت: كيف وقع قوله {قل الله يحييكم} جواب: {إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}؟

لما أنكروا البعث وكذبوا الرسل، وحسبوا أن ما قالوه قول مبكت، ألزموا ما هم مقرون به من أن الله -عز وجل- وهو الذي يحييهم ثم يميتهم، وضم إلى إلزام ذلك ما هو واجب الإقرار به إن أنصفوا وأصغوا إلى داعي الحق وهو جمعهم يوم القيامة، ومن كان قادرا على ذلك كان قادرا على الإتيان بآبائهم، وكان أهون شيء عليه.

وفي تفسير الطاهر بن عاشور:

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الجاثية:25).

عطف على {وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (الجاثية:24)، أي عقدوا على عقيدة ألا حياة بعد الممات استنادا للأوهام والأقيسة الخيالية. وإذا تليت عليهم آيات القرآن الواضحة الدلالة على إمكان البعث وعلى لزومه لم يعارضوها بما يبطلها بل يهرعون إلى المباهتة فيقولون: إن كان البعث حقا فأتوا بآبائنا إن صدقتم. فالمراد بالآيات آيات القرآن المتعلقة بالبعث بدليل ما قبل الكلام وما بعده.

وفي قوله: {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} تسجيل عليهم بالتلجلج عن الحجة البينة، والمصير إلى سلاح العاجز من المكابرة والخروج عن دائرة البحث.

والخطاب بفعل (ائتوا) موجه للمؤمنين بدخول الرسول – صلى الله عليه وسلم -. و(إلا) أن قالوا استثناء من ججتهم وهو يقتضي تسمية كلامهم هذا حجة وهو ليس بحجة؛ إذ هو بالبهتان أشبه، فإما أن يكون إطلاق اسم الحجة عليه على سبيل التهكم بهم، وعلى هذا يكون الاستثناء في قوله: {إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، وإما أن يكون إطلاق اسم الحجة على كلامهم جرى على اعتقادهم. وتقديرهم دون قصد تهكم بهم، أي أتوا بما توهموه حجة. فيكون المعنى ألا حجة لهم البتة؛ إذ لا حجة لهم إلا هذه، وهذه ليست بحجة بل هي عناد فيحصل ألا حجة لهم بطريق التلميح. {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الجاثية:26).

تلقين لإبطال قولهم {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (الجاثية:24)، يتضمن إبطال قولهم: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} (الجاثية:24). وإنما (يحييكم) توطئة له، أي كما هو أوجدكم هو يميتكم لا الدهر، فقديم اسم (الله) يفيد تخصيص الإحياء والإماتة به لإبطال قولهم، إن الدهر هو الذي يميتهم. وقوله: {ثم يجمعكم إلى يوم القيامة} إبطال لقولهم: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} (الجاثية:24)، وقوله: {لا ريب فيه} حال من يوم القيامة، أي لا ريب في وجوده بما يقتضيه من إحياء الأموات، ومعنى نفي الريب فيه أنه حقيقة الريب وهي التي تتقوم من دلائل تفضي إلى الشك، منتفية عن قضية وقوع يوم القيامة بكثرة الدلائل الدالة على إمكانه وعلى أنه بالنسبة لقدرة الله ليس أعجب من بدء الخلق، وأن الله أخبر عن وقوعه فوجب القطع بوقوعه. فكان الشك فيه جديرا بالاقتلاع فكأنه معدوم. وهذا كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لما سئل عن الكهان: «ليسوا بشيء» مع أنهم موجودون فأراد أنهم ليسوا بشيء حقيق.