في الحديث عن ابن عباس قال: «قال أبو بكر – رضي الله عنه -: يا رسول الله، قد شبت! قال – صلى الله عليه وسلم -: شيبتني (هود) وأخواتها.. وفي رواية (هود) و(الواقعة) و(المرسلات) و(عم يتساءلون) و(إذا الشمس كورت)» السلسلة الصحيحة.

وفي بيان سبب قوله – صلى الله عليه وسلم -: شيبتني، قال – صلى الله عليه وسلم -: قوله -تعالى-: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا} (هود:112)، وفي شرح آخر.. (قصفن على الأمم).

وذلك أن هذه السورة تذكر هلاك الأمم السابقة وأهوال يوم القيامة، وهذه إحدى غايات آي الذكر الحكيم، تثبيت النبي – صلى الله عليه وسلم – وتسليته بذكر أحوال الأنبياء قبله مع أممهم، وجاء ذكر معظم الأمم السابقة في سورة الأعراف، وسورة هود.

كنت وأبو عمر (مؤذن مسجدنا الجديد)، في أول مجلس علم بين العشائين في مكتبة المسجد، وكعادته كان حمد وجار المسجد محمد معنا.

قلبت كتب التفسير في جهاز الحاسوب الذي أوقفه أحد المصلين للمسجد، لكل طالب علم يريد أن يستخدمه فيما يرضي الله.

بدأت أقرأ الآيات من سورة الأعراف: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (71) فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} (الأعراف).

وتفسير هذه الآيات ورد ما يلي في بيان ما حصل بين نبي الله هود -عليه السلام- وقومه عاد، بدأ الحوار بأن أخبرهم أنه مرسل من عند الله بأن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا، فما كان منهم إلا أن تحدوه وكابروا؛ فطلبوا العذاب الذي خوفهم به وحذرهم منه. فقال لهم: (قد وقع عليكم)، ومعنى وقع أي وجب. يقال: وقع القول والحكم أي وجب. ومثله: {ولما وقع عليهم الزجر} (الأعراف:١٣٤)، أي نزل بهم، وكذلك: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} (النمل:٨٢).

والرجس العذاب وقيل: عني بالرجس الرين على القلب بزيادة الكفر، جاوبوا هودا بما أنبأ عن ضياع حجته في جنب ضلالة عقولهم ومكابرة نفوسهم، ولذلك أعادوا تكذيبه بطريق الاستفهام الإنكاري على دعوته للتوحيد، وهذا الجواب أقل جفوة وغلظة من جوابهم الأول؛ إذ قالوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (الأعراف:٦٦)، كأنهم راموا استنزال نفس هود ومحاولة إرجاعه عما دعاهم إليه، فلذلك اقتصروا على الإنكار، وذكروه بأن الأمر الذي أنكره هو دين آباء الجميع تعريضا بأنه سفه آباءه، كما قال الملأ من قريش لأبي طالب حين دعاه النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يقول: «لا إله إلا الله» عند احتضاره فقالوا لأبي طالب: «أترغب عن ملة عبدالمطلب؟».

واجتلاب (كان) لتدل على أن عبادتهم أمر قديم مضت عليه العصور. ومعنى (أجئتنا) أقصدت واهتممت بنا لنعبد الله وحده؟ فاستعير فعل المجيء لمعنى الاهتمام والتحفز والتصلب، فقصدوا مما دل عليه فعل المجيء زيادة الإنكار عليه وتسفيهه على اهتمامه بأمر مثلما دعاهم إليه، و(وحده) حال من اسم الجلالة وهو اسم مصدر أوحده: إذا اعتقده واحدا، والفاء في قوله: {فأتنا بما تعدنا} لتفريع طلب تحقيق ما توعدهم به، وتحديا لهود، وإشعارا له بأنهم موقنون بألا صدق للوعيد الذي يتوعدهم، فلا يخشون ما وعدهم به من العذاب فالأمر في قلوبهم (فأتنا) للتعجيز.

والإتيان بالشيء حقيقته أن يجيء مصاحبا إياه، ويستعمل مجازا في الإحضار والإثبات كما هنا، والمعنى فعجل لنا ما تعدنا به من العذاب، أو فحقق لنا ما زعمت من وعيدنا، ونظيره الفعل المشتق من المجيء مثل {ما جئتنا ببينة} (هود:٥٣)، وأسندوا الفعل إلى ضميره تعريضا لأن ما توعدهم به هو شيء من مختلقاته وليس من قبل الله -تعالى-؛ لأنهم يزعمون أن الله لا يحب منهم الإقلاع عن عبادة آلهتهم، لأنه لا تتعلق إرادته بطلب الضلال في زعمهم.

والوعد الذي أرادوه وعد بالشر، وهو الوعيد، ولم يتقدم ما يفيد أنه توعدهم بسوء، فيحتمل أن يكون وعيدا ضمنيا تضمنه قوله: {أفلا تتقون} (الأعراف:٦٥)؛ لأن أنكاره عليهم انتفاء الاتقاء دليل على أن ثمة ما يحذر منه، ولأجل ذلك لم يعينوا وعيدا في كلامهم بل أبهموه بقولهم بما تعدنا، ويحتمل أن يكون الوعيد تعريضا من قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} (الأعراف:٦٩)، المؤذن بأن الله استأصل قوم نوح وأخلفهم بعاد، فيوشك أن يستأصل عادا ويخلفهم بغيرهم.

وعقبوا كلامهم بالشرط فقالوا: {إن كنت من الصادقين} استقصاء لمقدرته قصدا منهم لإظهار عجزه عن الإتيان بالعذاب فلا يسعه إلا الاعتراف بأنه كاذب، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله تقديره: أتيت به وإلا فلست بصادق.

فأجابهم بأن أخبرهم بأن الله قد غضب عليهم، وأنهم وقع عليهم رجس من الله.

والأظهر أن (وقع) معناه حق وثبت، من قولهم للأمر المحقق: هذا واقع، وقولهم للأمر المكذوب: هذا غير واقع، فالمعنى حق وقدر عليكم رجس وغضب.

فالرجس هو الشيء الخبيث، أطلق هنا مجازا على خبث الباطن، أي فساد النفس كما في قوله -تعالى-: {فزادتهم رجسا إلى رجسهم} (التوبة:١٢٥)، وقوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (الأنعام:١٢٥)، والمعنى أصاب الله نفوسهم بالفساد لكفرهم فلا يقبلون الخير ولا يصيرون إليه، وعن ابن عباس أنه فسر الرجس هنا باللعنة، والجمهور فسروا الرجس هنا بالعذاب، فيكون فعل: وقع من استعمال صيغة المضي في معنى الاستقبال، إشعارا بتحقيق وقوعه.

وقد أخبر هود بذلك عن علم بوحي في ذلك الوقت أو من حين أرسله الله، إذ أعلمه بأنهم إن لم يرجعوا عن الشرك بعد أن يبلغهم الحجة فإن عدم رجوعهم علامة على أن خبث قلوبهم متمكن لا يزول، ولا يرجى منهم إيمان، كما قال الله لنوح: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ} (هود:٣٦). وتأخير الغضب عن الرجس لأن الرجس هو خبث نفوسهم، سبب استحقاقهم لغضب الله عليهم واقترانه بـ(قد) للدلالة على تقريب زمن الماضي من الحال: مثل قد قامت الصلاة. وتقديم: (عليكم) على (من ربكم) للاهتمام بتعجيل ذكر المغضوب والغاضب، إيقاظا لبصائرهم لعلهم يبادرون بالتوبة.

ونزل مثل هذه الآيات على النبي – صلى الله عليه وسلم – في بيان حال من كفر من قومه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج:٤٧).

قوله -تعالى-: {ويستعجلونك بالعذاب} نزلت في النضر بن الحارث وقيل: نزلت في أبي جهل بن هشام، وهو قوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} {ولن يخلف الله وعده} أي في إنزال العذاب، قال الزجاج: استعجلوا العذاب فأعلمهم الله أنه لا يفوته شيء، وقد نزل بهم في الدنيا يوم بدر. وفي الحديث عن ابن عباس، قال: قالت قريش للنبي – صلى الله عليه وسلم -: ادع ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك، قال: «أتفعلون؟»، قالوا: نعم فعدا، فأتاه جبريل، فقال: إن الله يقرأ عليك السلام ويقول: إن شئت أصبح الصفا ذهبا فمن كفر بعد ذلك عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة، قال: «بل أبواب التوبة والرحمة» (السلسلة الصحيحة).

وهكذا حال الأمم الكافرة تتحدى أمر الله عنادا وتكبرا وتطلب تعجيل العذاب ولكن الله الحكيم الحليم جعل لكل شيء أجلا.