سألته.. كيف وضعك مع الصلاة؟

أجابني.. أصلي الفروض جميعها في البيت، من باب الاحتياط.

ماذا تعني « من باب الاحتياط»؟! سألته مستنكرا مستغربا.

– عندما وزنت الأمور في ذهني، قلت الصلاة لا تأخذ مني جهدا ولا وقتا طويلا، فإذا كان هناك حساب أكون قد أخذت احتياطيَّ، فلن أحاسب على تركها.

– ستحاسب على ما هو أكبر منها، ولن تنفعك صلاتك مع هذه العقيدة، عقيدة الشك في الآخرة، والحساب والجزاء.

صاحبي، زميل في العمل، في كلية أخرى، ولكنه جاري في السكن، ولديه آراء منذ شبابه، يتساءل عن كل شيء، ويشكك في كل شيء، ويجرب كل شيء، ولم يتغير منذ عشرين سنة حين جاورته وتعرفنا على بعض.

– الحكيم يا أبا زياد، يعتبر من غيره، ويعرف الأمور قبل أن تقع، وقضية الشك في البعث والحساب والجزاء ليست وليدة اليوم، بل تبناها كل من عارض رسل الله، وذكر الله ذلك في كتابه، ورد على المشككين تساؤلاتهم، وفند آراءهم، في آيات كثيرة، لماذا لا تتبع هذه الآيات وتتدبر في معانيها؟

– ببساطة لا أقرأ القرآن كثيرا، وإذا قرأت شيئا أشعر أنني لا أجيد القراءة، فأتركه، وإذا فتحت كتب التفسير تمر علي كلمات وأحيانا مصطلحات لا أفهمها، أشعر أنها لم تكتب لزماننا هذا، فقررت ألا أفتح هذه الكتب.

شعرت بالأسى لما سمعت من جاري.

– دعني أقرأ لك تفسير بعض الآيات، وإذا لم تفهم شيئا منها استوقفني، وسوف أبين لك المعنى بكلمات سهلة، ونحن الآن في شهر الصيام، ولدينا الكثير من الوقت للقراءة والراحة، لم يجبني إلى طلبي فورا، بعد تفكير اقترح علي:

– لم لا تكتب لي آيات، وتفسيرها وسوف أقرؤها في المنزل، وأسألك فيما بعد إن وجدت صعوبة في فهم شيء؟

– أفعل إن شاء الله.

احترت أي آيات أكتب؟ وأي كتاب تفسير أستعين به، ففتحت المصحف، فإذا أنا بآيات من سورة (يس)، كتبتها وتتبعت تفسيرها وبعثتها لصاحبي.

{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (يس).

في التفسير: جاء أحد هؤلاء الثلاثة (أبي بن خلف، وقيل العاصي بن وائل، وقيل أبو جهل) إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في يده عظم إنسان رميم، ففته وذراه في الريح وقال: يا محمد، أتزعم أن الله يحيي هذا بعد ما أرم (أي بلي)؟ فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم -: نعم يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك جهنم.

فالتعريف في الإنسان تعريف العهد وهو الإنسان المعين المعروف بهذه المقالة يومئذ، ونظير هذه الآياة قوله -تعالى-: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} في سورة القيامة.

والمراد بـ(خصيم): أنه شديد الشكيمة بعد أن كان أصله نطفة.

و(إذا) هنا: الفجائية، ووجه المفاجأة أن ذلك الإنسان خلق ليعبد الله، ويعلم ما يليق، به فإذا لم يجر على ذلك فكأنه فاجأ بما لم يكن مترقبا منه مع إفادة أن الخصومة في شؤون الإلهية كانت بما بادر به حين عقل.

والخصيم فعيل مبالغة في معنى مفاعل، أي مخاصم شديد الخصام.

والمبين: من أبان بمعنى بان، أي ظاهر في ذلك.

وضرب المثل: إيجاده، والمثل: تمثيل الحالة، فهو كقوله -تعالى-: {فلا تضربوا لله الأمثال} (النحل:74)، أي لا تشبهوه بخلقه فتجعلوا له شركاء.

وقوله -تعالى-: {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه} أي ونسي أنا أنشأناه من نطفة ميتة فركبنا فيه الحياة، أي جوابه من نفسه حاضر، وهي رميم أي بالية، رم العظم فهو رميم ورمام.

كأنه قيل: ما هذا المثل الذي ضربه؟ فقيل: قال: من يحيي العظام وهي رميم؟ وهذا الاستفهام للإنكار؛ لأنه قاس قدرة الله على قدرة العبد، فأنكر أن الله يحيي العظام البالية؛ حيث لم يكن في مقدور البشر.

والاستفهام في قوله: من يحيي العظام؟ إنكاري، فالمعنى: لا أحد يحيي العظام وهي رميم، والنسيان في قوله: {ونسي خلقه} أي نسي أننا خلقناه من نطفة، أي لم يهتد إلى أن ذلك أعجب من إعادة عظمه، كقوله -تعالى-: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} (ق:15).

وذكر النطفة هنا تمهيدا للمفاجأة بكونه خصيما مبينا عقب خلقه، أي ذلك الهين المنشأ قد أصبح خصيما عنيدا، وليبنى عليه قوله بعد: {ونسي خلقه} أي نسي خلقه الضعيف فتطاول وجاوز، ولأن خلقه من النطفة أعجب من إحيائه وهو عظم مجاراة لزعمه في مقدار الإمكان، وإن كان الله يحيي ما هو أضعف من العظم فيحيي الإنسان من رماده ومن ترابه، ومن عجب ذنبه، ومن لا شيء باقيا منه.

أي يحييها لأنه أنشأها أول مرة، فهو قادر على إنشائها مرة ثانية كما أنشأها أول مرة، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} (الواقعة:62)، وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (الروم:27).

وذيل هذا الاستدلال بجملة {وهو بكل خلق عليم} أي واسع العلم محيط بكل وسائل الخلق التي لا نعلمها: كالخلق من نطفة، والخلق من ذرة، والخلق من أجزاء النبات المغلقة كسوس الفول وسوس الخشب، فتلك أعجب من تكوين الإنسان من عظامه.

وفي تعليق الإحياء بالعظام دلالة على أن عظام الحي تحلها الحياة كلحمه ودمه، وليست بمنزلة القصب والخشب وهو قول مالك وأبي حنيفة؛ ولذلك تنجس عظام الحيوان الذي مات دون ذكاة، وعن الشافعي: إن العظم لا تحله الحياة فلا ينجس بالموت.