في كتاب الله آيات تحذر وتهدد وتتوعد فئات من البشر، من الظالمين والمفسدين في الأرض والمنافقين، وهذه الفئة الأخيرة نالت النصيب الأكبر من فضح أسرارهم وكشف خباياهم ونشر أحوالهم التي يجتهدون في سترها عن المؤمنين؛ لأنهم يعيشون معهم، يحضرون جمعهم وجماعاتهم ويشاركونهم تفاصيل الحياة اليومية، ولكن الله تكفل بإخراج ما في قلوبهم، ونشر خبايا تصرفاتهم التي يسترونها عن المؤمنين، عن حضورهم الصلاة مع المؤمنين، قال -تعالى-: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى}، وعن إنفقاهم: {وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}، وعن تصرفاتهم في المجالس العامة: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ} (التوبة:127)، يظنون أنهم يخدعون المؤمنين ولكنهم ما يخدعون إلا أنفسهم؛ ذلك أن الله كشفهم للمؤمنين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (النساء:142).

كنت وصاحبي في مجلسنا المعتاد بعد صلاة الجمعة، نجتمع نصف ساعة، نتحدث عن أحداث الأسبوع وخطبة الجمعة وقضايا العقيدة والكتب.

– وما الحكمة من ذكر صفات المنافقين بهذا التفصيل الدقيق، حتى إن ما يخفون في صدورهم يظهره الله؟!

– حكم كثيرة وعظيمة، منها: فضحهم لعلهم يرجعون عن غيهم ويتوبون عن نفاقهم، وتحذير المؤمنين أن يتصفوا بشيء من صفاتهم أو يقعوا في شيء من تصرفاتهم، وتنبيه الصادقين إلى خططهم ومكرهم وكيدهم للحذر منهم، وأخذ الحيطة في التعامل معهم، ومن الحكمة أن هذا القرآن وحي من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ فكل ما فيه حق وإن لم يظهر فورا للمؤمنين، ولكنهم يؤمنون به وإن لم يروه.

– هل سورة التوبة أكثر سورة فضحت المنافقين؟

– الآيات التي فضحت أحوال المنافقين كثيرة، وتعلم أن في القرآن سورة (المنافقون)، ولكن سورة التوبة -فعلا- من أسمائها (الفاضحة) و(الكاشفة)؛ لما ذكر فيها من أحوال المنافقين.

ولعل أشد آية على المنافقين قوله -تعالى-: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} (التوبة:64)، ومع ذلك استمروا في نفاقهم، ولذلك توعدهم الله وهددهم بآيات بينات منها قوله -سحانه-: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الأحزاب: 60-62).

في تفسير هذه الآيات: توعد -سبحانه- أهل النفاق والإرجاف فقال: لئن لم ينته المنافقون عما هم عليه من النفاق، والمرجفون في المدينة عما يصدر منهم من الإرجاف بذكر الأخبار الكاذبة المتضمنة لتوهين جانب المسلمين، وظهور المشركين عليهم فسوف يصيبهم ما ذكر بعد..

– والإرجاف في اللغة: إشاعة الكذب والباطل، من الرجفة وهي: الزلزلة.

– يقال رجفت الأرض: أي تحركت، فالمرجفون قوم يتلقون الأخبار فيحدثون بها في مجالس ونواد، ويخبرون بها من يسأل ومن لا يسأل.

كانوا يخبرون عن سرايا المسلمين بأنهم هزموا، وتارة بأنهم قتلوا، وتارة بأنهم غلبوا ونحو ذلك مما تنكسر له قلوب المسلمين من الأخبار، فتوعدهم الله -سبحانه- بقوله: {لنغرينك بهم} أي لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل والتشريد بأمرنا لك بذلك.

وهم الذين قال الله فيهم {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} (النساء:83)، فهذه الأوصاف لأصناف من الناس، وكان أكثر المرجفين من اليهود وليسوا من المؤمنين، لأن قوله عقبه (لنغرينك بهم) لا يساعد أن فيهم مؤمنين.

وقيل معنى الآية: أنهم إن أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدينة إلا وهم مطرودون، سنّة الله في الذين خلوا من قبل أي: سنّ الله ذلك في الأمم الماضية وهو لعن المنافقين، وأخذهم، وتقتيلهم، وكذا حكم المرجفين، وصرح هنا بما كني عنه في الآيات السالفة؛ إذ عبر عنهم بالمنافقين، فعلم أن الذين يؤذون الله ورسوله هم المنافقون ومن لف لفهم. وبهذا الوعيد كف المنافقون أذاهم عن المسلمين، فلم يقع التقتيل فيهم؛ إذ لم يحفظ أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قتل منهم أحدا، ولا أنهم خرج منهم أحد. وهذه الآية ترشد إلى تقديم إصلاح الفاسد من الأمة على قطعة منها؛ لأن إصلاح الفاسد يكسب الأمة فردا صالحا أو طائفة صالحة تنتفع الأمة منها كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده». ويمكن تفسير (سنة الله): سن الله إغراءك بهم سنته في أعداء الأنبياء السالفين وفي الكفار المشركين الذين قتلوا وأخذوا في غزوة بدر وغيرهم.

والذين خلوا: الذين مضوا وتقدموا، والأظهر أن المراد بهم من سبقوا من أعداء النبي – صلى الله عليه وسلم – الذين أذن الله له بقتلهم، مثل: الذين قتلوا من المشركين، ومثل الذين قتلوا من يهود قريظة، وهذا أظهر، لأن ما أصاب أولئك أوقع في الموعظة؛ إذ كان هذان الفريقان على ذكر من المنافقين وقد شهدوا بعضهم وبلغهم خبر بعض. ويحتمل أيضا أن يشمل الذين خلوا الأمم السالفة الذين غضب الله عليهم لأذاهم رسلهم؛ فاستأصلهم الله -تعالى- مثل قوم فرعون وأضرابهم.