ابن أخي (علي) كان طالبا في إحدى الشعب التي درستها قبل سبع سنوات، ولد مؤدب، وخلوق، وهادئ، ولديه بعض التساؤلات في العقيدة، ولاسيما فيما يتعلق بآل البيت والصحابة، وكيفية موالاة آل البيت، في أثناء تدريسي له في المرة الأولى لم يكن جادا في تحصيله العلمي؛ ربما لعدم قدرته علي تنظيم وقته بين العمل والأسرة والدراسة، رسب في المقرر معي، عاتبني كثير من أقرب رحمي، ولكن بقيت درجة الرسوب، في العالم التالي نال الامتياز، واستمر في أدائه إلى أن نال الشهادة الجامعية.

– لقد تعلمت منك يا عمي، درسا نفعني في دراستي، طوال حياتي.

– أرجو أن تستفيد منه لا في عملك فحسب، بل في تعاملك، ودينك وعقيدتك، فالحق لا يمكن أن يخالطه باطل.

دار الحوار بيننا، قبل أن يجتمع بقية الإخوة والأقارب لعشاء الخميس، كان منصتا، وهكذا هو معي، ولكن إذا اختلط بوالده وأهل زوجته، يتأثر أيضا.

– اسمع يا (أبا حيدر) هذه الآيات من سورة يونس.. يقول -تعالى-: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (يونس:31-32).

     لما بين الله -عز وجل- فضائح المشركين، أتبعها بإيراد الحجج الدامغة من أحوال الرزق والحواس والموت والحياة والابتداء والإعادة والإرشاد، والهدى، وبنى -سبحانه- الحجج على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤولين ليكون أبلغ في إلزام الحجة، وأوقع في النفوس، فقال: (قل) يا محمد للمشركين احتجاجا لأحقية التوحيد، وبطلان ما هم عليه من الشرك {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات والمعادن، فإن اعترفوا حصل المطلوب، وإن لم يعترفوا: فلا بد أن يعترفوا بأن الله هو الذي خلقهما.

{أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} وخص السمع والبصر بالذكر؛ لما فيهما من الصنعة العجيبة، والقدرة الباهرة العظيمة، أي: من يستطيع ملكهما وتسويتهما على هذه الصفة العجيبة، والخلقة الغريبة حتى ينتفعوا بهما هذا الانتفاع العظيم، ويحصلوا بهما من الفوائد ما لا يدخل تحت حصر الحاصرين؟

ثم انتقل إلى حجة ثالثة، فقال: {وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ}؟ الإنسان من النطقة، والطير من البيضة، والنبات من الحبة، أو المؤمن من الكافر {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}؟ أي: النطقة من الإنسان، أو الكافر من المؤمن.

     ثم انتقل إلى حجة رابعة، فقال: {وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}؟ أي: يقدره ويقضيه، وهذا من عطف العام على الخاص؛ لأنه قد عم ما تقدم وغيره: {فسيقولون الله} أي: سيكون قولهم في جواب هذه الاستفهامات: أن الفاعل لهذه الأمور هو الله -سبحانه- إن أنصفوا وعملوا على ما يوجبه الفكر الصحيح، والعقل السليم.

     ثم أمره الله -سبحانه- بعد أن يجيبوا بهذه الجواب أن يقول لهم: {أفلا تتقون}؟ والاستفهام للإنكار، أي: تعلمون ذلك أفلا تتقون وتفعلون ما يوجبه هذا العلم من تقوى الله الذي يفعل هذه الأفعال؟ {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} أي: الذي يفعل هذه الأفعال هو ربكم المتصف بأنه الحق، لا ما جعلتموهم  شركاء  له، والاستفهام في قوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}؟ للتقريع والتوبيخ والمعنى: أي شيء بعد الحق إلا الضلال؟ فإن ثبوت ربوبية الرب -سبحانه- حق بإقرارهم فكان غيره باطلا: {فأنى تصرفون} أي: كيف تستجيزون العدول عن الحق الظاهر، وتقعون في الضلال؛ إذ لا واسطة بينهما؟ فمن تخطى أحدهما وقع في الآخر.

     {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (يونس:33) أي: كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال، كذلك حقت كلمة ربك أي: حكمه وقضاؤه على الذين فسقوا، أي: خرجوا من الحق إلى الباطل، وتمردوا في كفرهم عنادا ومكابرة، أنهم لا يؤمنون، أو: لأنهم لا يؤمنون.

     ثم انتقلت الآيات إلى أسلوب التحدي فقال -عز وجل-: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (يونس:34)، أورد -سبحانه- في هذا حجة خامسة على المشركين، أمر نبيه – صلى الله عليه وسلم – أن يقولها لهم، وهم وإن كانوا لا يعترفون بالمعاد، لكنه لما كان أمرا ظاهرا بينا، وقد أقام الأدلة عليه في هذه السورة على صورة لا يمكن دفعها عند من أنصف، ثم أمره -سبحانه- أن يقول لهم {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (يونس:34) أي هو الذي يفعل ذلك لا غيره، وهذا القول الذي قاله النبي – صلى الله عليه وسلم- من أمر الله -سبحانه- له هو نيابة عن المشركين في الجواب، إما: على طريق التلقين لهم، وتعريفهم كيف يجيبون، وإما: لكون هذا المعنى قد بلغ في الوضوح إلى غاية لا يحتاج معها إلى إقرار الخصم، ومعرفة ما لديه، وإما: لكون المشركين لا ينطقون بما هو الصواب في هذا الجواب فرارا منهم عن أن تلزمهم الحجة، أو أن يسجل عليهم بالعناد والمكابرة إن حادوا عن الحق وتنقلبون منه إلى غيره.

     ثم أمره الله -سبحانه- أن يورد عليهم حجة سادسة فقال: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} (يونس:35) والاستفهام ها هنا كالاستفهامات السابقة، والاستدلال بالهداية بعد الاستدلال بالخق وقع كثيرا في القرآن كقوله: {الذي خلقني فهو يهدين} وقوله: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} والمعنى: قل لهم يا محمد هل من شركائكم من يرشد إلى دين الإسلام، ويدعو الناس إلى الحق؟ فإذا قالوا لا، فقل لهم: {الله يهدي للحق} دون غيره، وهداية الله -سبحانه- لعبادة إلى الحق هي: بما نصبه لهم من الآيات في المخلوقات، وإرساله للرسل، وإنزاله للكتب، والاستفهام في قوله: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَى} للتقرير، وإلزام الحجة، والأصل فيها يهتدي، أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها إلى الهاء.

     والمعنى أفمن يهدي الناس إلى الحق، وهو الله -سبحانه- أحق أن يتبع، أم الأحق بأن يتبع ويقتدي به من لا يهتدي بنفسه إلا أن يهديه غيره فضلا عن أن يهدي غيره؟ قوله: {فما لكم كيف تحكمون} هذا تعجب من حالهم باستفهامين متواليين: أي شيء لكم، كيف تحكمون باتخاذ هؤلاء شركاء لله؟ وكلا الاستفهامين للتقريع والتوبيخ، ثم بين -سبحانه- ما هؤلاء عليه في أمر دينهم، وعلى أي شيء بنوه، وبأي شيء اتبعوا هذا الدين الباطل، وهو ا لشرك فقال: وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا.