آيات كثيرة في كتاب الله ترد بصيغة أسئلة، وهو أسلوب الاستفهام التنويري، بمعنى أن الإجابة معروفة ولا يمكن لأحد أن ينكرها، فالجواب (لا إله إلا الله)، سواء نطق بها الجاحد أ أنكرها.

– ذكرتني بالآية الستين وأربع آيات بعدها من سورة النمل،، تنتهي بقوله -عز وجل-، {أإله مع الله}؟، فينطق الكون كله (لا إله إلا الله)، يفقه ذلك من يفقهه ولا يجحده إلا معاند.

– أحسنت، نعم هذا الأسلوب الدافع يتكرر في كتاب الله، يتحدى الكافرين والجاحدين والمعاندين والمكابرين، ويقيم عليهم الحجة، في الدنيا، فإن تمادوا في غيهم، لم يكن لهم عذر إذا وقفوا بين يدي الله يوم القيامة.

صاحبي من أهل القرآن (أهله الله وخاصته) كما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (صحيح الجامع)، أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحدا.

كنا في مجلس علم بين العشائين في مكتبة المسجد، وصاحبي لا يغادر المسجد في هذا الوقت، فقد عرفته، شاركنا مؤذننا الجديد (الشيخ هاني) وأحد رواد المسجد من الذين يتدارسون القرآن في برنامج (الأترجة) لحفظ كتاب الله.

– ومن هذه الآيات قوله -سبحانه-:

{قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون:84-89).

وفي تفسير هذه الآيات ورد ما يلي:

الاستفهام تقريري، أي أجيبوا عن هذا، ولا يسعهم إلا الجواب بقولهم: (لله)، والمقصود: إثبات لازم جوابهم وهو انفراده -تعالى- بالواحدانية. وفي هذا الشرط توجيه لعقولهم أن يتأملوا فيظهر لهم أن الأرض لله، وأن من فيها لله فإن كون جميع ذلك لله قد يخفى؛ لأن الناس اعتادوا نسبة المسببات إلى أسبابها المقارنة والتصرفات إلى مباشريها فنُبِّهوا بقوله: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى التأمل، أي إن كنتم تعلمون علم اليقين، ولذلك عقب بقوله: {سيقولون لله}، أي يجيبون عقب التأمل جوابا غير بطيء.

وخص بالتذكير لما في بعضه من خفاء الدلالة والاحتياج إلى النظر، {قل من رب السماوات السبع} تكرير الأمر بالقول وإن كان المقول مختلفا والمقصود وقوع هذه الأسئلة متتابعة دفعا لهم بالحجة، ولذلك لم تعد في السؤالين الثاني والثالث جملة {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (المؤمنون:84)، اكتفاء بالافتتاح بها.

وصيغت هذه الآية لقصد التعريض بأنهم يحترزون عن أن يقولوا: رب السماوات السبع الله، لأنهم أثبتوا مع الله أربابا في السماوات؛ إذ عبدوا الملائكة، فهم عدلوا عما فيه نفي الربوبية عن معبوداتهم، واقتصروا على الإقرار بأن السماوات ملك لله؛ لأن ذلك لا يبطل أوهام شركهم من أصلها، ألا ترى أنهم يقولون في التلبية في الحج «لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك»، ولذلك ذيل حكاية جوابهم بالإنكار عليهم انتفاء اتقائهم الله -تعالى-، ولم يؤت مع هذا الاستفهام بشرط {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (المؤمنون:84)، ونحوه كما جاء في سابقه؛ لأن انفراد الله -تعالى- بالربوبية في السماوات والعرش لا يشك فيه المشركون؛ لأنهم لم يزعموا إلهية أصنامهم في السماوات والعوالم العلوية.

وخص وعظهم عقب جوابهم بالحث على تقوى الله؛ لأنه لما تبين من الآية التي قبلها أنهم لا يسعهم إلا الاعتراف بأن الله مالك الأرض ومن فيها، وعقبت تلك الآية بحضهم على التذكر ليظهر لهم أنهم عباد الله لا عباد الأصنام، وتبين من هذه الآية أنه رب السماوات وهي أعظم من الأرض، وأنهم لا يسعهم إلا الاعتراف بذلك ناسب حثهم على تقواه؛ لأنه يستحق الطاعة له وحده وأن يطيعوا رسوله فإن التقوى تتضمن طاعة ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم. {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}. الملكوت: مبالغة في الملك، فالملكوت: الملك المقترن بالتصرف في مختلف الأنواع والعوالم لذلك جاء بعده كل شيء. واليد: القدرة وهو إثبات لصفة (اليد) لله -عز وجل- كما يليق بجلاله -سبحانه-، ومعنى يجير يغيث ويمنع من يشاء من الأذى، ومصدره الإجارة، فيفيد معنى الغلبة، فمنى (لا يجار عليه) لا يستطيع أحد أن يمنع أحدا من عقابه. فيفيد معنى العزة التامة، وبنى فعل يجار عليه للمجهول لقصد انتفاء الفعل عن كل فاعل فيفيد العموم مع الاختصار.

ولما كان تصرف الله هذا خفيا يحتاج إلى تدبر العقل لإدراكه عقب الاستفهام بقوله: {إن كنتم تعلمون} كما عقب الاستفهام الأول بمثله حثا لهم على علمه والاهتداء إليه.

(وأنى) يجوز أن تكون بمعنى (من أين) كما تقدم سورة آل عمران الآية 37، {قال يا مريم أنى لك هذا} والاستفهام تعجيبي، والسحر مستعار لترويج الباطل بجامع تخيل ما ليس بواقع واقعا، والمعنى: فمن أين اختل شعوركم فراج عليكم الباطل؟ فالمراد بالسحر ترويج زعماء الكفر عليهم الباطل حتى جعلوهم كالمسحورين.

في كتاب الله -عز وجل- لمن أراد الهداية، لذلك يبقى كتاب الله الحجة القائمة على جميع الخلق إلى يوم القيامة، أحد المعجزات التي أيد بها الله نبيه، فهو أعظم آية، لخير الأنبياء، ولكن ينبغي على العبد أن يبحث عن الهداية صادقا مخلصا وإلا ما انتفع بكتاب الله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} (فصلت:44).