«إن الدعاء هو العبادة»، قاله النبي – صلى الله عليه وسلم -، ثم قرأ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر:60)، وفي آيات كثيرة يذكر الله -عز وجل- الدعاء مكان العبادة، والعبادة مكان الدعاء، مثل قوله -عز وجل-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر:60). وقوله -عز وجل-: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} (مريم:48-49).

– ما معنى «إن الدعاء هو العبادة»؟

– هذا مثل قوله – صلى الله عليه وسلم -: «الحج عرفة»، و«الدين النصيحة»، وذلك لبيان أن الدعاء أصل العبادة، وأهم ركن من أركان العبادة، كما الوقوف بعرفة بالنسبة للحج، لذلك لا ينبغي صرف أي جزء من الدعاء لغير الله، وفي هذه الآيات يتحدى الله -عز وجل- المشركين أن يدعوا أصنامهم، وأقام عليهم الحجة أن هذه الأصنام لا قيمة لها، ففي تفسير هذه الآيات: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} (الأعراف:194-196).

     المراد بـ{الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}: الأصنام، والمشهور أنه لا يطلق إلا على المخلوقات من الآدميين؛ فيكون إطلاق (العباد) على الأصنام كإطلاق ضمير جمع العقلاء عليها بناء على الشائع في استعمال العرب يومئذ من الإطلاق، وجعله صاحب (الكشاف) إطلاق تهكم واستهزاء بالمشركين، يعني أن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء، فلو بلغوا تلك الحالة لما كانوا إلا مخلوقين مثلكم، وأبطل أن يكونوا عبادا بقوله: ألهم أرجل إلى آخره.قال ابن عباس: معنى {فادعوهم} فاعبدوهم، ثم وبخهم الله -تعالى- وسفه عقولهم فقال: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} الآية، أي أنتم أفضل منهم فيكف تعبدونهم؟ والغرض جهلهم.

     {عباد أمثالكم} أخبرهم -سبحانه- بأن هؤلاء الذين جعلتموهم آلهة هم عباد لله كما أنتم عباد له، مع أنكم أكمل منهم؛ لأنكم أحياء تنطقون وتمشون وتسمعون وتبصرون، وهذه الأصنام ليست كذلك، ولكنها مثلكم في كونها مملوكة لله مُسخّرة لأمره، وفي هذا تقريع لهم بالغ وتوبيخ لهم عظيم؛ لأن هؤلاء الذين جعلتموهم شركاء ليس لهم شيء من الآلات التي هي ثابتة لكم، فضلا عن أن يكونوا قادرين على ما تطلبونه منهم، فإنهم كما ترون هذه الأصنام التي تعكفون على عبادتها ليست لهم أرجل يمشون بها، في نفع أنفسهم فضلا على أن يمشوا في نفعكم، وليس لهم أيد يبطشون بها كما يبطش غيرهم من الأحياء، وليس لهم أعين يبصرون بها كما تبصرون، وليس لهم آذان يسمعون بها كما تسمعون، فكيف تدعون من هم على هذه الصفة من سلب الأدوات، وبهذه المنزلة من العجز، و(أم) في هذه المواضع هي المنقطعة التي بمعنى (بل).

     لما بين لهم حال هذه الأصنام، وتأكيد وجوه النقص والعجز لها من كل باب، أمره الله بأن يقول لهم ادعوا شركاءكم الذين تزعمون أن لهم قدرة على النفع والضر، ثم كيدوني أنتم وهم جميعا بما شئتم من وجوه الكيد فلا تنظروني أي: فلا تمهلوني، ولا تؤخروا إنزال الضرر بي من جهتها، والكيد: المكر، وليس بعد هذا التحدي لهم والتعجيز لأصنامهم شيء، ثم قال له: إن وليي الله الذي أنزل الكتاب، أي: كيف أخاف هذه الأصنام التي هذه صفتها ولي وليٌّ ألجأ إليه وأستنصر به وهو الله -عز وجل- الذي نزل الكتاب، وهذه الجملة تعليل لعدم المبالاة بها، و(ولي) الشيء هو الذي يحفظه ويقوم بنصرته، ويمنع منه الضرر وهو يتولى الصالحين، أي: يحفظهم وينصرهم، ويحول بينهم وبين أعدائهم.

– قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}، كرر -سبحانه- هذا لمزيد التأكيد والتقرير، ولما في تكرار التوبيخ والتقريع من الإهانة للمشركين والتنقيص بهم، وإظهار سخف عقولهم، وركاكة أحلامهم {وتراهم ينظرون إليك} جملة متبدأة لبيان عجزهم، أي: والحال أنك تراهم ينظرون إليك حال كونهم لا يبصرون بها، قيل: كانوا يجعلون للأصنام أعينا من جواهر مصنوعة، فكانوا بذلك في هيئة الناظرين ولا يبصرون، وقيل: المراد بذلك المشركون، أخبر الله عنهم بأنهم لا يبصرون حين لم ينتفعوا بأبصارهم، وإن أبصروا بها غير ما فيه نفعهم.

     وهذا البيان والتحدي لعبدة الأصنام وقع قبل ذلك بين إبراهيم -عليه السلام- وقومه، كما قال -تعالى-: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} (الأنبياء:58-66).

وهكذا حال من يدعو الأضرحة ويتضرع عندها ويتقرب إليها وينذر لها. يدعون من دون الله ما لا ينفعه ولا يضره.