– لا شك أن قضية التوحيد وهي إفراد لله -سبحانه- بالعبادة، هي القضية الكبرى وأساس قيام السماوات والأرض، وإرسال الرسل وإنزال الكتب، لإقامة (لا إله إلا الله)، وهي دعوة الأنبياء جميعهم، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:25)، واقتصر على (من قبلك)؛ لأنه لا نبي بعد محمد – صلى الله عليه وسلم -، فهذه الآية تشمل الأنبياء جميعهم، منذ أُهبط آدم إلى الأرض. لم نعقد أي مجلس علمي منذ جائحة كورونا التي انتشرت في الأرض منذ (يناير 2020)، وكانت لقاءاتنا عبر البث المرئي، تقنية لم نعتد عليها، لها فوائد وقصور. بدأنا نلتقي مع بداية (2021) في مجموعات صغيرة، مع الالتزام بالتباعد الجسدي، ولبس الكمام، وكان أول لقاء لنا في ديوان أحد الإخوة من رواد مسجد صباح السالم؛ حيث دار حوارنا عن التوحيد.

– آيات القرآن أقامت الحجج والبراهين، لإثبات قضية التوحيد، وكذلك تحدت من أنكر هذه القضية وأعجزته، وفي النهاية توعد الله من أعتدى على دعاة التوحيد من الرسل والصالحين، بل أنفذ وعيده مع كثير من الأمم السابقة. ومن هذه الآيات في سورة الأنبياء:  {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ} (الأنبياء: 21-24).

     وصف الآلهة بأنها من الأرض تَهَكُّمًا بالمشركين، وإظهارا لسفه رأيهم، أي جعلوا لأنفسهم آلهة من عالم الأرض، أو مأخوذة من أجزاء الأرض من حجارة أو خشب، تعريضا بأن ما كان مثل ذلك لا يستحق أن يكون معبودا، كما قال إبراهيم -عليه السلام-: {أتعبدون ما تنحتون}! (الصافات:95). وجملة (هم ينشرون) صفة لآلهة. والمراد: نشر الأموات، أي بعثهم. وبذلك يتبين أن هذه الآية استدلال على استحالة وجود آلهة غير الله بعد خلق السماوات والأرض؛ لأن المشركين لم يكونوا ينكرون أن الله هو خالق السماوات والأرض، قال -تعالى-: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (الزمر:38)، وقال -تعالى-: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (الزخرف:9)، فهي مسوقة لإثبات الوحدانية، لا لإثبات وجود الصانع؛ إذ لا نزاع في كذلك، ولكنها منتظمة على ما يناسب اعتقادهم الباطل لكشف خطئهم وإعلان باطلهم.

(لفسدتا) الفساد: هو اختلال النظام وانتفاء النفع من الأشياء، ففساد السماء والأرض هو أن تصيرا غير صالحتين ولا منتظمتين، بأن يبطل الانتفاع بما فيهما، فمن صلاح السماء نظام كواكبها، وانضباط مواقيت طلوعها وغروبها، ونظام النور والظلمة، ومن صلاح الأرض مهدها للسير، وإنباتها الشجر والزرع، واشتمالها على المرعى والحجارة والمعادن والأخشاب، وفساد كل من ذلك يكون ببطلان نظامه الصالح. وضمير المثنى عائد إلى السماوات والأرض، من قوله -تعالى-: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الأنبياء:19)، أي لو كان في السماوات والأرض آلهة أخرى ولم يكن جميع من فيها ملكا لله وعبادا له لفسدت السماوات والأرض، واختل نظامهما الذي خلقتا به.

      وهذا استدلال على بطلان عقيدة المشركين؛ إذ زعموا أن الله جعل آلهة شركاء له في تدبير الخلق، أي أنه بعد أن خلق السماوات والأرض أقام في الأرض شركاء له، ولذلك كانوا يُلبّون في الحج: «لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك»، وذلك من الضلال المضطرب الذي وضعه لهم أئمة الكفر، بجهلهم وترويج ضلالهم على عقول الدهماء. ووجه اتساق هذا الاستدلال أنه لو تعددت الآلهة، للزم أن يكون كل إله متصفا بصفات الإلهية المعروفة آثارها، وهي الإرادة المطلقة، والقدرة التامة على التصرف، كما قال -تعالى-: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (المؤمنون:91). فلا عجب أن تكون مشاهدة دوام السماوات والأرض بانتظامهما البديع عبر مختلف العصور والأحوال، دليل على أن إلهها واحد غير متعدد.

     قوله -تعالى-: {أم اتخذوا من دونه آلهة} أعاد التعجب في اتخاذ الآلهة من دون الله مبالغة في التوبيخ، أي صفتهم كما تقدم في الإنشاء والإحياء، فتكون «أم» بمعنى هل على ما تقدم، فليأتوا بالبرهان على ذلك، وقيل: الأول احتجاج من حيث المعقول؛ لأنه قال: «هم ينشرون» ويحيون الموتى، هيهات! والثاني احتجاج بالمنقول، أي هاتوا برهانكم من هذه الجهة، ففي أي كتاب نزل هذا؟ في القرآن، أم في الكتب المنزلة على سائر الأنبياء؟ {هذا ذكر من معي} بإخلاص التوحيد في القرآن (وذكر من قبلي) في التوراة والإنجيل، وما أنزل الله من الكتب، فانظروا، هل في كتاب من هذه الكتب أن الله أمر باتخاذ آلهة سواه؟ فالشرائع لم تختلف فيما يتعلق بالتوحيد، وإنما اختلفت في الأوامر والنواهي.

      وفي كتاب الله آيات كثيرة تبين أن الأصنام التي تعبد من دون الله، لا ينبغي أن تتخذ آلهة؛ لعجزها عن دفع الضرر عن أنفسها فضلا عن جلب النفع أو عمل شيء لغيرها، مثلا قول الله -عز وجل- عن إبراهيم -عليه السلام-: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء:69-77).

     وقوله -سبحانه-: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ} (الأعراف:194-195).

وقوله -عز من قائل-: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ} (الأنبياء:43).