كثير من الناس يقرأ القرآن دون أن يتدبر المعاني، وكثير منهم تشكل عليه آيات من كتاب الله، ولكن لا يتعب نفسه في البحث عن معانيها.

أصبح همُّ معظم المسلمين قراءة أكبر قدر من آيات الكتاب، وإتمام أكبر عدد من الختمات بغض النظر عن فهم المعاني وإدراك المقاصد، مع أن الله -عز وجل- قال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص:29)، يذكر القرطبي في تفسير هذه الآية: «وفي هذا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن ودليل على أن الترتيل أفضل من الهذِّ؛ إذ لا يصلح التدبر مع الهذِّ».

– أظن أن السبب الرئيس لهذا الأمر ضعف عامة المسلمين في اللغة العربية، وقلة الهمة، والغفلة عن أولويات العلم الشرعي، فيقدمون المستحب على الواجب والمباح على المستحب، دون علم أو رجوع لأهل العلم، نسأل الله المغفرة لنا ولهم.

قبل أسبوع تقريبا -وكنت في مجلس عام- سألني أحدهم: كيف يأمر الله -عز وجل- المؤمنين بالإيمان، بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (النساء:136).

أجبته: هل حاولت فتح أي تفسير للاطلاع على معنى الآية؟ لم يجبني، قلت له: هذا أمر من الله للمؤمنين بالثبات والاستمرار بالتصديق والإيمان، وأنصحك نصيحة مخلصة: افتح كتب التفسير للاطلاع على ما يشكل عليك.

كنت وصاحبي في طريقنا لسماع قراءة سنن الترمذي بالسند المتصل في أحد المساجد القريبة من منازلنا.

– مثل هذه الآية: قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (الأحزاب:1).

– وماذا عن قول الله -تعالى-: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الزخرف:43).

وكنا قد وصلنا إلى مجلس الذكر، واتفقنا أن نقرأ تفسير هذه الآية بعد انتهاء المجلس وأداء الصلاة.

قوله -تعالى-: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} يريد القرآن، وإن كذب به من كذب، فـ{إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} «يوصلك إلى الله ورضاه وثوابه».

– والاستمساك: شدة المسك، فالسين والتاء فيه للتأكيد. والأمر به مستعمل في طلب الدوام؛ لأن الأمر بفعل لمن هو متلبس به لا يكون لطلب الفعل بل لمعنى آخر وهو هنا طلب الثبات على التمسك بما أوحي إليه، كما دل عليه قوله: {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، وهذا كما يدعى للعزيز المكرم، فيقال: أعزك الله وأكرمك، أي أدام ذلك، وقوله: أحياك الله، أي أطال حياتك، ومنه قوله -تعالى- في تعليم الدعاء: {اهدنا الصراط المستقيم} (الفاتحة:6).

والذي أوحي إليه هو القرآن، وجملة «إنك على صراط مستقيم» تأييد لطلب الاستمساك بالذي أوحي إليه وتعليل له.

والصراط المستقيم: هو العمل بالذي أوحي إليه، فكأنه قيل: إنه صراط مستقيم، ولكن عدل عن ذلك إلى «إنك على صراط مستقيم» ليفيد أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – راسخ في الاهتداء إلى مراد الله -تعالى- كما يتمكن السائر من طريق مستقيم لا يشوبه في سيره تردد في سلوكه ولا خشية الضلال في بنياته (الطرق الصغيرة المشعبة)، ومثله قوله -تعالى-: {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} (النمل:79).

وحرف على للاستعلاء المجازي المراد به التمكن كقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة:5). وهذا تثبيت للرسول – صلى الله عليه وسلم – وثناء عليه بأنه ما زاغ قيد أنملة عما بعثه الله به، كقوله: {إنك على الحق المبين}، ويتبعه تثبيت للمؤمنين على إيمانهم، وهذا أيضاء ثناء على القرآن.

ذكر حظ الرسول – صلى الله عليه وسلم – من الثناء والتأييد في قوله: {على صراط مستقيم} (الزخرف:43)، المجعول علة للأمر بالثبات عليه، ومثل ذلك قوله -تعالى-: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام:106).