-كثير من الناس ينزعج من قولك «هداك الله»، ظنا منه أنك ترى أنه على غير هدى وتدعو له بالهداية.

قاطعني.

– وهذا ما حصل معي في إحدى اجتماعاتنا الأسرية، قلتها لابن عم لي، فرد علي غاضبا: هل تراني أشرب خمرا حتى تقول لي: «هداك الله»؟

وماذا كان موقفك؟

كنت وصاحبي في طريقنا إلى أحد المخيمات الربيعية التي أقامها مجموعة من الشباب في المنطقة الشمالية من الكويت، وعادة تقام هذه المخيمات لثلاثة أو أربعة أشهر ابتداء من نوفمبر.

– اعتذرت له، وانتهزتها فرصة لأبين تفسير بعض الآيات التي قد تلتبس على العامة، قلت له: «لقد خاطب الله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو أتقى الخلق وأعلمهم بالله، فقال له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ}، فهذا ليس معناه أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يتقي الله، وقال -سبحانه-: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ}، وأخذت أقرأ لهم في تفسير هذه الآية.

– وماذا وجدت؟

– هذا الأمر من الله -عز وجل- لنبيه أتى في آيتين من كتاب الله، الأولى في سورة غافر: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار} (٢٥).

والثانية في سورة محمد: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (19).

وفي تفسير هاتين الآيتين ورد ما يلي:

     {واستغفر لذنبك} قيل: الذنب أمتك حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامة. وقيل: لذنب نفسك على من يُجوِّز الصغائر على الأنبياء، ومن قال لا تجوز قال: هذا تعبُّدٌ للنبي – صلى الله عليه وسلم – بدعاء. وقيل: هو مجرد تعبد له – صلى الله عليه وسلم – بالاستغفار لزيادة الثواب، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر {وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار} أي: دم على تنزيه الله متلبسا بحمده. والأمر بالاستغفار أمر بأن يطلب من الله -تعالى- المغفرة التي اقتضتها النبوة ، وفيه تعريض بأن أمته مطلوبون بذلك بالأحرى.

     وأيضا فالنبي –صلى الله عليه وسلم  – مأمور بالاستغفار تعبدا وتأدبا، وأمر بتسبيح الله -تعالى- وتنزيهه بالعشي والإبكار، أي الأوقات كلها، فاقتصر على طرفي أوقات العمل. وقد أخبر الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كما في أول سورة الفتح، فتعين أن أمره بالاستغفار في سورة غافر قبل أن يخبره بذلك، لطلب دوام المغفرة، وكان أمره به في سورة النصر بعد أن أخبره بغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر، للإرشاد إلى شكر نعمة النصر، وقد قال بعض الصحابة للنبي – صلى الله عليه وسلم – في شأن عبادته: إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: «أفلا أكون عبدا شكورا»؟.

وكان يكثر أن يقول في سجوده «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي». بعد نزول سورة إذا جاء نصر الله (النصر:1) قالت عائشة -رضي الله عنها-: «يتأول القرآن». وأما الآية من سورة (محمد) قوله -تعالى-: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} قال الماوردي: وفيه- وإن كان الرسول عالما بالله – ثلاثة أوجه: يعني اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله.

الثاني – ما علمته استدلالا فاعلمه خبرا يقينا.

الثالث – يعني فاذكر أن لا إله إلا الله، فعبر عن الذكر بالعلم.

     وعن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله حين بدأ به {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} فأمر بالعمل بعد العلم. أمر الله رسوله – صلى الله عليه وسلم – بالثبات على ما له من العلم بوحدانية الله، وعلى ما هو دأبه من التواضع لله بالاستغفار لذنبه ومن الحرص على نجاة المؤمنين بالاستغفار لهم؛ لأن في ذلك العلم وذلك الدأب استمطار الخيرات له ولأمته.

     فالأمر في قوله: فاعلم كناية عن طلب العلم وهو العمل بالمعلوم، وذلك مستعمل في طلب الدوام عليه؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد علم ذلك وعلَّمه المؤمنين، وإذا حصل العلم بذلك مرة واحدة تقرر في النفس؛ لأن العلم لا يحتمل النقيض، فليس الأمر به بعد حصوله لطلب تحصيله بل طلب الثبات فهو على نحو قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (النساء: 136) . وأما الأمر في قوله: (واستغفر لذنبك) فهو لطلب تجديد ذلك إن كان قد علمه النبي – صلى الله عليه وسلم – من قبل وعمله أو هو يتطلب تحصيله إن لم يكن فعله من قبل.

قوله تعالى: {واستغفر لذنبك} يحتمل وجهين: أحدهما- يعني استغفر الله أن يقع منك ذنب. الثاني – استغفر الله ليعصمك من الذنوب.

وقيل: لما ذكر له حال الكافرين والمؤمنين أمره بالثبات على الإيمان، أي اثبت على ما أنت عليه من التوحيد والإخلاص والحذر عما تحتاج معه إلى استغفار.

     وقيل: الخطاب له والمراد به الأمة، وعلى هذا القول توجب الآية استغفار الإنسان لجميع المسلمين. وقيل: أمر بالاستغفار لتقتدي به الأمة. {وللمؤمنين والمؤمنات} أي ولذنوبهم، وهذا أمر بالشفاعة. وروى مسلم عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس المخزومي قال: أتيت النبي – صلى الله عليه وسلم – وأكلت من طعامه فقلت: يا رسول الله، غفر الله لك، فقال له صاحبي: هل استغفر لك النبي – صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، ولكم، ثم تلا هذه الآية {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات}، ثم تحولت فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه، جمعا (يريد مثل جمع الكف، وهو أن يجمع الأصابع ويضمه). عليه خيلان كأنه الثآليل. (جمع خال، وهو الشامة في الجسد. والثآليل: وهو ثؤلول، وهي حبيبات تعلو الجسد).

 وعن أبي هريرة  رضي الله عنه في قوله: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة». وما يستغفر منه النبي – صلى الله عليه وسلم – ليس من السيئات لعصمته منها، وإنما هو استغفار من الغفلات ونحوها، وتسميته بالذنب في الآية إما محاكاة لما كان يكثر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يقوله: «اللهم اغفر لي خطيئتي» وإنما كان يقوله في مقام التواضع، وإما إطلاق اسم الذنب على ما يفوت من الازدياد في العبادة مثل أوقات النوم والأكل، وإطلاقه على ما عناه النبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله: «إنه ليغان على قلبي وإني أستغفر الله في اليوم مائة مرة (مسلم).