– كلما تدبرنا هذه الآيات التي فيها عتاب من الله -عز وجل- لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – ازددنا يقينا بمنزلة الرسول – صلى الله عليه وسلم – عند الله، منزلة لم يبلغها نبي غيره، ويأتي العتاب دائما لينا لطيفا، متماشيا مع هذه المنزلة لرسولنا – صلى الله عليه وسلم -، وفي هذه الآية مثال جميل، يقول -تعالى- في سورة التوبة (وتسمى الفاضحة لما تضمنته من بيان أحوال المنافقين): {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)}.

– كلمات هذه الآية رقيقة جميلة لطيفة لا يحتاج أن يطلع أحدنا على كتب التفسير لمعرفة مدى مراعاة الله لنبيه في عتابه على (ترك الأولى)، ولكن دعنا نقرأ ما ورد في تفسير هذه الآية.

صاحبي.. هين.. لين.. لا حدة في نقاشه، ولا شدة في كلامه، عرفته منذ أكثر من عشرين سنة، ولم أره مرة يرفع صوته، أو يشتد على أحد، حتى على من يسيء إليه! ينسحب بهدوء إذا تعالت الأصوات، ويتعامل مع ذلك مع الجميع كأن شيئا لم يحصل.

– هات ما عندك من كتب التفسير.

قوله -تعالى-: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}، قيل: هو افتتاح كلام، كما تقول: أصلحك الله وأعزك ورحمك، كان كذا وكذا، وعلى هذا التأويل يحسن الوقف على قوله: {عفا الله عنك}.

هذا عتاب من الله –تعالى- ذكره، عاتب به نبيه – صلى الله عليه وسلم – في إذنه لمن أذن له في التخلف عنه، حين شخص إلى تبوك لغزو الروم، من المنافقين.

يقول -جل ثناؤه-: {عفا الله عنك}، يا محمد، ما كان منك في إذنك لهؤلاء المنافقين الذين استأذنوك في ترك الخروج معك، وفي التخلف عنك، من قبل أن تعلم صدقه من كذبه.

يقول: ما كان ينبغي لك أن تأذن لهم في التخلف عنك؛ إذ قالوا لك: {لو استطعنا لخرجنا معك}، حتى تعرف من له العذر منهم في تخلفه، ومن لا عذر له منهم، فيكون إذنك لمن أذنت له منهم على علم منك بعذره، وتعلم من الكاذب منهم المتخلف نفاقا وشكا في دين الله.

عن قتادة قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (التوبة:43)، عاتبه كما تسمعون، ثم أنزل الله في (سورة النور) فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء فقال: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} (النور:62)، فجعله الله رخصة في ذلك من ذلك، وأخبره بالعفو قبل الذنب لئلا يطير قلبه فرقا.

قيل: في الإذن قولان: الأول: {لم أذنت لهم} في الخروج معك، وفي خروجهم بلا عدة ونية صادقة فساد.

الثاني: {لم أذنت لهم} في القعود لما اعتلوا بأعذار، ذكرهما القشيري، قال: وهذا عتاب تلطف؛ إذ قال: {عفا الله عنك}، وكان – صلى الله عليه وسلم – أذن من غير وحي نزل فيه، قال قتادة وعمرو بن ميمون: ثنتان فعلهم النبي – صلى الله عليه وسلم -، ولم يؤمر بهما: إذنه لطائفة من المنافقين في التخلف عنه ولم يكن له أن يمضي شيئا إلا بوحي، وأخذه من الأسارى الفدية فعاتبه الله.

قال بعض العلماء: إنما بدر منه ترك الأولى فقدم الله له العفو على الخطاب الذي هو في صورة العتاب، قوله -تعالى-: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} أي ليتبين لك من صدق ممن نافق، قال ابن عباس: وذلك أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يومئذ يعرف المنافقين وإنما عرفهم بعد نزول سورة (التوبة)، وقال مجاهد: هؤلاء قوم قالوا: نستأذن في الجلوس، فإن أذن لنا جلسنا، وإن لم يؤذن لنا جلسنا.

الاستفهام في: {عفا الله عك لم أذنت لهم} للإنكار من الله -تعالى- على رسوله – صلى الله عليه وسلم -؛ حيث وقع منه الإذن لمن استأذنه في القعود، قبل أن يتبين من هو صادق منهم في عذره الذي أبداه، ومن هو كاذب فيه.

وفي ذكر العفو عنه – صلى الله عليه وسلم – ما يدل على أن هذا الإذن الصادر منه كان خلاف الأولى، وفي هذا عتاب لطيف من الله -سبحانه.

وقيل: إن هذا عتاب له – صلى الله عليه وسلم – في إذنه للمنافقين بالخروج معه، لا في إذنه لهم بالقعود عن الخروج. والأول أولى.

– أحسنت، من أي كتاب في التفسير قرأت؟

– لقد انتقلت بين الطبري والقرطبي وابن عاشور، والثالث يعجبني لأسلوبه اللغوي، وربطه بين الآيات، وتعميقه في الوصول إلى المعنى، مع أنني ألاحظ أحيانا جملا لا تتفق ومنهج السلف في الأسماء والصفات، ولكنها معروفة وقليلة.