من نعم الله علي أن رزقني جيرانا مميزين في المنطقة التي انتقلنا إليها، (بو عبدالله) عن يميني، و(بوفيصل) عن يساري، كلاهما ملتزمان بصلاة الجمعة في جامعنا، (بوفيصل) يعمل في مركز خدمة المواطن، وهو في سن ابنتي الكبرى، (وبوعبدالله) متقاعد، يصغرني بعام واحد فقط.

خرجنا من صلاة الجمعة عائدين إلى مساكننا مشيا على الأقدام.

– بعض الآيات مثل التي قرأها إمامنا اليوم عن تحول القبلة {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (البقرة:147)، أشعر أنها لا تعني النبي – صلى الله عليه وسلم -، وإنما تعني آخرين قد يصيبهم شك أو ريب، أما النبي – صلى الله عليه وسلم – فليس لديه شك على الإطلاق في القضايا التي توحى إليه، هكذا بدأ الحوار (بوفيصل):

هذه الآية تكرر معناها في أربعة مواضع من كتاب الله، في سورة آل عمران، بعد ذكر عيسى -عليه السلام-: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ} (آل عمران:59-60)، وفي سورة الأنعام: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (الأنعام:114)، وفي سورة يونس: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (يونس:94).

– ليتك تبحث في مكتبتك الشاملة التي تحملها في هاتفك عن تفسير هذه الآيات.

– لك ذلك يا أبا عبدالله، ولكن تجلسون عندي ربع ساعة حتى نقرأ ما نجده في كتب التفسير.

استجابا لطلبي، وبالفعل بلغنا منزلي وأخذنا مجلسنا في مكتبي الصغير، وقد اكتمل البحث عن تفسير هذه الآيات.

– إليكما ما وجدت:

{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (البقرة:147)، يعني استقبال الكعبة، الامتراء: الشك، نهاه الله -سبحانه- عن الشك في كونه من ربه، أو في كون كتمانهم الحق مع علمهم، وعلى الأول هو تعريض للأمة، أي: لا يكن أحد من أمته من الممترين، لأنه – صلى الله عليه وسلم – لا يشك في كون ذلك هو الحق من الله -سبحانه-، وهو تحذير للأمة وهذه عادة القرآن في كل تحذير مهم ليكون خطاب النبي – صلى الله عليه وسلم – بمثل ذلك وهو أقرب الخلق إلى الله -تعالى- وأولاهم بكرامته دليلا على أن من وقع في ذلك من الأمة قد حقت عليه كلمة العذاب، وليس له من النجاة باب.

{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ} (آل عمران:59-60)، التشبيه واقع على أن عيسى خلق من غير أب كآدم، لا على أنه خلق من تراب.

الحق من ربك فلا تكن من الممترين لما فيه من إيماء إلى أن وفد نجران ممترون في هذا الذي بين الله لهم في هذه الآيات: أي فإن استمروا على محاجتهم إياك مكابرة في هذا الحق أو في شأن عيسى فادعهم إلى المباهلة والملاعنة.

ذلك أن تصميمهم على معتقدهم بعد هذا البيان مكابرة محضة، بعد ما جاءك من العلم وبينت لهم، فلم يبق أوضح مما حاججتهم به فعلمت أنهم إنما يحاجونك عن مكابرة، وقلة يقين، فادعهم إلى المباهلة بالملاعنة الموصوفة هنا.