وقد أشار إلى ذلك قوله -تعالى- فيما حكاه خطابا منه لموسى -عليه السلام- { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} الأعراف: 156-157) الآية، ففي قوله -تعالى-: {وسعت كل شيء}، إشارة إلى أن المراد رحمة هي عامة فامتازت شريعة الإسلام بأن الرحمة ملازمة للناس بها في سائر أحوالهم، وأنها حاصلة بها لجميع الناس لا لأمة خاصة.

فأقيمت شريعة الإسلام على دعائم الرحمة والرفق واليسر. قال -تعالى-: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78)، وقال -تعالى-: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185).

وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة» (صححه الألباني).

وما يتخيل من شدة في نحو القصاص والحدود فإنما هو لمراعاة تعارض الرحمة والمشقة كما أشار إليه قوله -تعالى-: {ولكم في القصاص} (البقرة:179)؛ فالقصاص والحدود شدة على الجناة ورحمة ببقية الناس.

وأما رحمة الإسلام بالأمم غير المسلمين، فإنما نعني به رحمته بالأمم الداخلة تحت سلطانه وهم أهل الذمة. ورحمته بهم عدم إكراههم على مفارقة أديانهم، وإجراء العدل بينهم في الأحكام بحيث لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم في الحقوق العامة.

هذا، وإن أريد بالعالمين في قوله -تعالى-: {إلا رحمة للعالمين}، النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة، فإن الشريعة تتعلق بأحوال الحيوان في معاملة الإنسان إياه وانتفاعه به. إذ هو مخلوق لأجل الإنسان، قال -تعالى-: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (البقرة:29)، وقد أذنت الشريعة الإسلامية للناس بالانتفاع بما ينتفع به من الحيوان، ولم تأذن في غير ذلك. ولذلك كره صيد اللهو ورم تعذيب الحيوان لغير أكله، وعد فقهاؤنا سباق الخيل رخصة للحاجة في الغرو ونحوه.

ورغبت الشريعة في رحمة الحيوان ففي حديث «الموطأ»، عن أبي هريرة مرفوعا: «إن الله غفر لرجل وجد كلبا يلهث من العطش فنزل في بئر فملا خفه ماء وأمسكه بفمه حتى رقي فسقى الكلب فغفر الله له»..

أما المؤذي والمضر من الحيوان فقد أذن في قتله وطرده لترجيح رحمة الناس على رحمة البهائم.

استمر الحديث في المجلس لأكثر من ساعة، لم نشعر بها، في طريق عودتنا، سألني صاحبي: لم يذكر لنا المتحدث المصدر الذي اعتمد عليه في شرحه الممتع لآية {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.

– أكاد أجزم أنه التحرير والتنوير، تفسير ابن عاشور فهذا أسلوبه في التفسير.

بحث صاحبي في هاتفه، وبالفعل كان معظم الحديث من الكتاب الذي ذكرت.

ولاحظ أن المتحدث لم يذكر الآيات الأخرى التي وصف بها الله -عز وجل- المهام التي بعث لأجلها الرسول -صلى الله عليه وسلم -، مثل قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} (الأحزاب:45-46)، وقوله -تعالى-: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (آل عمران:164).

وذلك أن آية سورة الأنبياء اختصر كل هذه الآيات وأتت بصيغة الحصر، النفي والاستثناء، (ما) و(إلا)، فهي صغية تنفي كل شيء وتثبت أمرا واحدا (الرحمة)، وكل تفصيل لمهام النبي -صلى الله عليه وسلم – تدخل في معنى (الرحمة)، وهذا تكريم من الله -عز وجل- لم يحصل إلا لنبينا – صلى الله عليه وسلم .