القرآن كلام الله، فيه كمال التعبير والبلاغة والفصاحة والإعجاز اللغوي بكل أنواعه، مع كما المعنى، لأنه كلام الله -عز وجل-، بعض آياته يقف عندها فطاحلة اللغة العربية على مر الزمان؛ ليقولوا: «والله لا يصدر هذا الكلام من مخلوق أبدا».

كنا في مجلس خاص جمع رهطا من أساتذة اللغة العربية، كنت وصاحبي الوحيدين غير المتخصصين.

– قوله -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107)، وقوله -تعالى-: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:179)، وقوله -تعالى-: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} (القمر:12)، وغيرها الكثير من الآيات التي تحمل الكثير من المعاني في كلمات قليلة.

ولكن دعونا نتدبر الآية الأولى من سورة الأنبياء ونربط اللغة بما ورد في كتب التفسير.

تبادلت وصاحبي النظرات إعجابا وترقبا لما يدور من نقاش كأننا تلميذين بين أساتذة!

– صيغت هذه الآية بأبلغ نظم إذ اشتملت بوجازة ألفاظها على مدح الرسول – صلى الله عليه وسلم- ومدح مرسله -تعالى-، ومدح رسالته بأن كانت مظهر رحمة الله -تعالى- للناس كافة وبأنها رحمة الله -تعالى-بخلقه.

فهي تشتمل على أربعة وعشرين حرفا بدون حرف العطف الذي عطفت به، ذكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم -، ومدح مرسله، والمرسل إليهم، والرسالة، وأوصاف هؤلاء الأربعة، مع إفادة عموم الأحوال، واستغراق المرسل إليهم، وخصوصية الحصر، وتنكیر رحمة للتعظيم، إذ لا مقتضي لإيثار التنكير في هذا المقام غير إرادة التعظيم وإلا لقيل: إلا لنرحم العالمين، أو إلا أنك الرحمة للعالمين، فهذه اثنا عشر معني، فقد فاقت أجمع كلمة لبلغاء العرب.

ووقوع الوصف مصدرا يفيد المبالغة في هذا الاتحاد بحيث تكون الرحمة صفة متمكنة من إرساله، ويدل لهذا المعنى ما أشار إلى شرحه النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: «يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة» (صححه الألباني).

وتفصيل ذلك يظهر في مظهرين: الأول تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة، والثاني إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته.

فأما المظهر الأول: فقد زين الله محمد – صلى الله عليه وسلم – بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة وجميع شمائله رحمة وصفاته رحمة على الخلق ولهذا خص الله محمدا – صلى الله عليه وسلم – في هذه السورة بوصف الرحمة ولم يصف به غيره من الأنبياء، في القرآن كله، قال -تعالى-: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة:120)، وقال -تعالى-: {فبما رحمة من الله لنت لهم} (آل عمران:159)، أي برحمة جبلك عليها وفطرك بها فكنت لهم لينا.

وفي حديث مسلم: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما شج وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه فقالوا: لو دعوت عليهم، فقال: «إني لم أبعث لقانا وإنما بعثت رحمة».

وأما المظهر الثاني من مظاهر كونه رحمة للعالمين فهو مظهر تصاريف شريعته، أي ما فيها من مقومات الرحمة العامة للخلق كلهم؛ لأن قوله -تعالى- متعلق بقوله رحمة.

والتعريف في (للعالمين) لاستغراق كل ما يصدق عليه اسم العالم، والعالم: الصنف من أصناف ذوي العلم، أي الإنسان، أو النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة كما تقدم احتمال المعنيين في قوله -تعالى-: {والحمدلله رب العالمين} (الفاتحة:2). فإن أريد أصناف ذوي العلم فمعنی كون الشريعة المحمدية في الرحمة أوسع الشرائع رحمة بالناس فإن الشرائع السالفة وإن كانت مملوءة برحمة إلا أن الرحمة فيها غير عامة.