عاش النبي – صلى الله عليه وسلم- أربعين سنة في قرية هي أم القرى، يعبد أهلها الأصنام ويعظمونها، بل كانوا مرجع العرب في الحفاظ على مكانة الأصنام، وعادات الجاهلية، وهؤلاء كانوا قرابة النبي – صلى الله عليه وسلم- وأهله! فلما اختاره الله لرسالته، لك أن تتصور الهم الذي أصابه – صلى الله عليه وسلم – أولا في إخبار قومه، ثم في قبولهم لما جاء به، فنزلت بعض الآيات لتعالج هذا الجانب في دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم – لقومه أولا، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، من هذه الآيات قوله -سبحانه وتعالى-:

{كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (الأعراف:2).

{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} (هود:12).

كنت وصاحبي في رحلة لمدة ثلاثة أيام لمزارع الشاي في مدينة (نوراليا) في سيريلانكا، المسافة بين المطار والمدينة لا تزيد عن 100 كلم، احتجنا خمس ساعات لقطعها لضيق الطريق وحدة الالتفافات صعودا، قررنا أن نرتاح يوما كاملا قبل أن نذهب إلى مزارع الشاي.

بعد الإفطار أخذنا ركنا هادئا في بهو الفندق، وكنا قد تواصلنا مع العالم عن طريق الشبكة العنكبوتية.

– ماذا ورد في تفسير هذه الآيات يا أبا عبدالله.

{فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} فيه مسألتان: الأولى: قوله -تعالى-: {حرج} أي ضيق، أي لا يضيق صدرك بالإبلاغ، فقد ورد في صحيح مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشا، فقلت: رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نُغْزِك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشا نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك».

فظاهره النهي، ومعناه نفي الحرج عنه، أي لا يضيق صدرك ألا يؤمنوا به، فإنما عليك البلاغ، وليس عليك سوى الإنذار به من شيء من إيمانهم أو كفرهم، ومثله، قوله -تعالى-:
{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}.

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}.

{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}.

{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.

قوله -تعالى-: {ليس على الأعمى حرج}، وقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، وقوله: {يجعل صدره ضيقا حرجا}، أي: شديد الضيق، إلى غير ذلك من الآيات، ومذهب مجاهد وقتادة أن الحرج هنا الشك، وليس هذا شك الكفر إنما هو شك الضيق، وكذلك قوله -تعالى-: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون}.

كتاب مبتدأ، ووقع الابتداء بالنكرة لأنها أُريد بها النوع بأنه كتاب من نوع الكتب المنزلة على الأنبياء، فكما نزلت صحف إبراهيم وكتاب موسى كذلك نزل هذا القرآن، أي هو كتاب عظيم تنويها بشأنه.

ويجوز أن يكون المقصود من الأخبار تذكير المنكرين والمكابرين؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنين يعلمون أنه أنزل من عند الله؛ فلا يحتاجون إلى الإخبار به، فالخبر مستعمل في التعريض بتغليط المشركين والمكابرين والقاصدين إغاظة الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالإعراض، ويجوز أن يكون المقصود من الخبر الامتنان والتذكير بالنعمة، أي هو كتاب أنزل إليك فكن منشرح الصدر به؛ فإنه أنزل إليك لتنذر به الكافرين وتذكير المؤمنين، والمقصود: تسكين نفس النبي – صلى الله عليه وسلم -، وإغاظة الكافرين، وتأنيس المؤمنين، أي هو كتاب أنزل لفائدة، وقد حصلت الفائدة؛ فلا يكن في صدرك حرج إن كذبوا، وبهذه الاعتبارات وبعدم منافاة بعضها لبعض يحمل الكلام على إرادة جميعها وذلك من مطالع السور العجيبة البيان.

وأصل ترتيب الكلام هنا: {كتاب أنزل إليك لا ليكون في صدرك حرج، بل لينشر صدرك به.