– أعظم ركن في الإسلام، بل وفي الرسالات قبله، توحيد الله -عز وجل-، إفراده -سبحانه- فيما اختص به، لهذا خلق الله الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، ولا مجاملات ولا تنازل ولا أنصاف حلول في هذا الباب، توحيد الله -سبحانه وتعالى.

– هل لك أن تبين لنا جانبا من هذا الباب العظيم؟

كان ديوان الثلاثاء في منزل أبي عبدالرحمن بعد صلاة العشاء، والحضور بين طلبة الجامعة ومتقاعدين، وبينهما مدير الجلسة (عبدالرحمن) ابن صاحب الديوان -طالب في السنة النهائية بكلية الحقوق.

– هناك قضايا اختُص بها الله -عز وجل- فلا ينبغي أن تصرف لغيره، هو -سبحانه- الذي يجيب الدعاء، فلا ينبغي أن يصرف الدعاء لغيره، وهو -سبحانه- الذي يملك المغفرة والرحمة، فلا ينبغي أن يُطلب غيره، وهو -سبحانه- الذي يملك الهداية بمعنى التوفيق لقبول الحق والعمل به، فلا تكون لغيره، ولا حتى لخير خلقه محمد – صلى الله عليه وسلم -، ونذكر هنا بعض الآيات من كتاب الله -عز وجل:

{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران:128-129).

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص:56).

نبه الله -تعالى- نبيه إلى أن الأمر ليس إليه، وأنه لا يعلم من الغيب شيئا إلا ما أعلمه، وأن الأمر كله لله يتوب على من يشاء، ويعجل العقوبة لمن يشاء. والتقدير: ليس لك من الأمر شيء ولله ما في السموات وما في الأرض دونك ودونهم يغفر لمن يشاء ويتوب على من يشاء.

ثبت في صحيح مسلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في رأسه، فجعل يسلب الدم عنه ويقول: «كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله -تعالى-؟!»، فأنزل الله -تعالى-: {ليس لك من الأمر شيء}.

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم أحد: «اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية، فنزلت هذه الآية: {ليس لك من الأمر شيء}.

فلما نزلت هذه الآية علم أن منهم من سيسلم وقد آمن كثير منهم: أبو سفيان وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم.

لمّا أُطْمِع في ذلك قال – صلى الله عليه وسلم -: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» وفي قوله: والله غفور رحيم: إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه، وتبشير لعباده بأنه المتصف بالمغفرة والرحمة على وجه المبالغة.

وفي تفسير الآية من سورة القصص: في صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لعمه: «قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة»، قال: لولا تعيرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك، فأنزل الله -تعالى-: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}، قال القرطبي: الهدى هديان: هدى دلالة وهو الذي يقدر عليه الرسل وأتباعهم، قال الله -تعالى-: {ولكل قوم هاد}، وقال: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}، فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه، وتفرد -سبحانه- بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق، فقال لنبيه – صلى الله عليه وسلم -: {إنك لا تهدي من أحببت}.

وفي قوله وهو أعلم بالمهتدين إيماء إلى ذلك، أي هو أعلم من كل أحد بالمهتدين في أحوالهم ومقادير استعدادهم على حسب ما تهيأت إليه فطرهم من صحيح النظر وقبول الخير واتقاء العاقبة والانفعال لما يلقى إليها من الدعوة ودلائلها.

والآيات في هذا المعنى كثيرة مثل قوله -تعالى:

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس:99).

{إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} (النحل:37). فالهدى المنفي عنه في آية: {إنك لا تهدي من أحببت}، هو الهدى الخاص، الذي هو التفضل بالتوفيق؛ لأن ذلك بيد الله وحده، وليس بيده – صلى الله عليه وسلم -، كما قال -تعالى-: {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} (المائدة:41).

وهكذا نجمع بين الآيات جميعها مثل:

{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (فصلت:17-18).

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (الشورى:52-53).

هذا بعض ما تيسر لهذه الخاطرة القصيرة، أسأل الله القبول.

أنهى عبدالرحمن المجلس العلمي بكلمات جميلة.

– هذا الجانب من التوحيد أخطأ فيه كثير من المسلمين، منهم من أطرى الرسول – صلى الله عليه وسلم -، فنسب إليهم بعض ما اختص الله به من قضايا كونية وقضايا إلهية. فتوجه هؤلاء المغالون إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يدعونه، ويستغثيون به، ويسألونه ما لا يملك! ومنهم من نسب هذه الأمور إلى بعض الأولياء والصالحين، وبعضهم نسبها إلى أشخاص لا حظَّ لهم في الدين، وجهل هؤلاء أن هذا الأمر شرك أكبر يخرج العبد من ملة الإسلام، وإن كان يصلي ويصوم، نسأل الله الهداية والتوفيق والثبات لنا ولأمة محمد – صلى الله عليه وسلم .