ازلنا في استعراض الآيات التي أيد الله بها سبحانه أنبياءه، فقد كان تفصيل وجوه الإعجاز لا يحصره المتأمل كان علينا أن نضبط معاقدها التي هي ملاكها، فنرى ملاك وجوه الإعجاز راجعا إلى ثلاث جهات:

الجهة الأولى:

بلوغه الغاية القصوى مما يمكن أن يبلغه الكلام العربي البليغ من حصول كيفيات في نظمه مفيدة معاني دقيقة ونكتا من أغراض الخاصة من بلغاء العرب مما لا يفيده أصل وضع اللغة؛، بحيث يكثر فيه ذلك كثرة لا يدانيها شيء من كلام البلغاء من شعرائهم وخطبائهم.

الجهة الثانية:

ما أبدعه القرآن من أفانين التصرف في نظم الكلام مما لم يكن معهوداً في أساليب العرب، ولكنه غير خارج عما تسمح به اللغة.

الجهة الثالثة:

ما أودع فيه من المعاني الحكمية والإشارات إلى الحقائق العقلية والعلمية مما لم تبلغ إليه عقول البشر في عصر نزول القرآن وفي عصور بعده متفاوتة، وقد عد كثير من العلماء من وجوه إعجاز القرآن ما يعد جهة رابعة هي ما انطوى عليه من الأخبار عن المغيبات مما دل على أنه منزل من علام الغيوب، فإعجاز القرآن من الجهتين الأولى والثانية متوجّه إلى العرب؛ إذ هو معجز لفصحائهم وخطبائهم وشعرائهم مباشرة، ومعجز لعامتهم بواسطة إدراكهم أن عجز مقارعيه عن معارضته مع توفر الدواعي عليه هو برهان ساطع على أنه تجاوز طاقتهم جميعاً، ثم هو بذلك دليل على صدق المنزل عليه لدى بقية البشر الذين بلغ إليهم صدى عجز العرب بلوغا لا يستطاع إنكاره لمعاصريه بتواتر الأخبار، ولمن جاء بشواهد التاريخ.

ثم قد يشارك خاصة العرب في إدراك إعجازه كل من تعلم لغتهم ومارس بليغ كلامهم وآدابهم من أئمة البلاغة العربية في مختلف العصور، والقرآن معجز من الجهة الثالثة للبشر قاطبة إعجازا مستمرا على مر العصور، وهذا من جملة ما شمله قول أئمة الدين: إن القرآن هو المعجزة المستمرة على تعاقب السنين؛ لأنه قد يدرك إعجازه العقلاء من غير الأمة العربية بواسطة ترجمة معانيه التشريعية والحكمية والعلمية والأخلاقية، وهو دليل تفصيلي لأهل تلك المعاني وإجمالي لمن تبلغه شهادتهم بذلك، وهو من الجهة الرابعة معجز لأهل عصر نزوله إعجازا تفصيليا، ومعجز لمن يجيء بعدهم ممن يبلغه ذلك بسبب تواتر نقل القرآن، وتعين صرف الآيات المشتملة على هذا الإخبار إلى ما أريد منها.