اعتاد المكوث  في المسجد بين العشائين، يقرأ القرآن، ويستقبل أصحاب الحاجات، ويبحث في مكتبة المسجد، هكذا عرفته منذ انتقلت إلى هذا الحي، قررت الأحد الماضي أن أذهب إلى العشاء الآخرة باكرا لأجالسه، كان في مكتبة المسجد ومعه أحد المصلين، استأذنت أن اشاركهما، نظر إلى جليسه كأنه يطلب إذنه فرحب، ودعاني إلى الجلوس.

– حديثنا لا خصوصية فيه، ولعلك تستفيد أو تفيد، كنت أشكو إلى الشيخ أحوال قلوبنا، في رمضان كنا نتقلب في الطاعات، ونزداد في القربات، ونكثر من العبادات، وكذلك في أوائل ذي الحجة، وبعد أن انتهي الموسم لا نرى أثرا لما كنا فيه، ونرجع إلى ما كنا عليه!

تحمست قليلا، وعلقت:

– هذا حال معظمنا -إن لم نكن كلنا كذلك.

تدخل إمامنا موضحا:

– إن تقلب أحوال العبد في الإيمان أمر طبيعي؛ فالإيمان يزيد وينقص، ولكن العبرة هي: هل الزيادة من الإيمان إلى الإحسان، أم من الإسلام إلى الإيمان، أم من الطاعات إلى المعاصي أم من الوجبات إلى المنهيات؟ هذا ما يجب أن يقلق عليه المرء، فالصحابة -رضوان الله عليهم- شكوا حال قلوبهم.

     رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما في حديث حنظله قال: كنا عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فذكرنا الجنة والنار حتى كأنا رأي العين، فأتيت أهلي وولدي فضحكت ولعبت، ثم ذكرت ما كنا عليه مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، فخرجت فلقيت أبا بكر – رضي الله عنه -، فقلت: نافقتُ نافقتُ، فقال أبا بكر: إني لأفعله، فأتيت النبي – صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك فقال: يا حنظلة لو كنتم تكونون كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم أو في طرقكم، يا حنظلة ساعة وساعة» صحيح على شرط مسلم.

     فالصحابة كانوا يتقلبون بين الإيمان والإحسان، وبعض الناس يستغل هذا الحديث ليسوغ تقلبه بين الطاعة والمعصية، يقول: ساعة وساعة!

على أية حال، ينبغي على المرء أن يعلم بعض الثوابت عن أعمال القلوب، حتى يعرف كيف يحافظ على إيمانه، وثواب أعماله.

– أولا: أعمال القلوب أعظم عند الله من أعمال الجوارح؛ ولذلك كان القلب محل نظر الرب -عز وجل- كما في الحديث: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم» وأشار إلى صدره . (مسلم).

     وفي المسند عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الله -عز وجل- لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».

– ثانيا: القلب السليم يثمر عملا صالحا، أما العمل الصالح فلا يدل على سلامة القلب، كما في حديث النبي – صلى الله عليه وسلم-: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، متفق عليه.

– ثالثا: أعمال القلب تؤدي إلى الخلود في النار أو النجاة منها؛ وذلك أن من أعمال القلب الشرك، والنفاق، وهذه تخلد في النار، ومن أعمال القلب توحيد الله -عز وجل- والإيمان بـ(لا إله إلا الله)، وهذه منجية من النار.

– رابعا: أعمال القلوب إما أن تحبط أعمال الجوارح، أو تبطل نفعها، أو تقلل أجرها؛ فثواب أعمال الجوارح يعتمد على أعمال القلوب، والأدلة على ذلك كثيرة، منها: حديث عمار بن ياسر – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الرجل ليصلي ولعله ألا يكون له منها إلا عشرها، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها» حسن. وفي حديث الصيام والقيام عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر» صحيح الجامع.

وهذه من أعظم أعمال الجوارح، الصلاة والصيام.

– خامسا: أعمال القلوب تحتاج إلى عناية مستمرة، أما أعمال الجوارح فيجب مراعاتها في أثناء أدائها، وذلك أن العبد يحتاج إلى الحرص على طهارة القلب وعدم تنجسه دائما، أما طهارة  البدن فلا يحتاج إليها إلا إذا أراد العبادة، وكذلك سلامة القلب من الكبر، ومن الحسد، والبغض والشحناء وإلا حرم الأجر، بل والعفو، والعتق من النار؛ بسبب هذه المعاصي القلبية، كما في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس؛ فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء؛ فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا أنظروا هذين حتى يصطلحا» مسلم.

دخل المجلس مؤذن المسجد، قبل موعد الأذان بعشر دقائق، نبهنا إلى الوقت، ثم خرج إلى مكان الصلاة ينتظر موعد الأذان.

تابع الإمام حديثه:

     ودعونا نختم الآن بحقيقة شديدة عن أعمال القلوب، وهي أن القلب شديد التقلب، ولذلك يحتاج إلى جهد عظيم ودائم ليبقى على استقامته، مع الاستمرار بالدعاء؛ ففي الحديث عن المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «لقلب ابن آدم أشد انقلابا من القدر إذا استجمعت غليا» الصحيحة، وكان من دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث عن أم سلمة أنها قالت: «كان أكثر دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم- يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فقيل له في ذلك فقال – صلى الله عليه وسلم -: إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقامه، ومن شاء أزاغه»، الصحيحة.