من البراهين التي تثبت للمرء سرعة انقضاء الحياة ما نراه أمام أعيننا من ولادة الأبناء، ونموهم، وبلوغهم الشباب، وتزوجهم ثم صيرورتهم آباء وأمهات.

     ما زلت أذكر (سارة) الصغيرة في مهدها، بل في أول ساعات قدومها للحياة حيث طلبت إليَّ شقيقتي أن أحنكها ومع أني لم أرها كثيرا إلا أنني حضرت، ولكني حضرت حفل زواجها، وبالأمس رزقت بابن ذكر اسمته (محمدا)، فصارت سارة أم محمد.

– تراودني مخاوف وأفكار عن المصير بعد الموت وأن العذاب سيكون لا محالة.. ولا سيما لمن كان لديه من الذنوب في ماضيه نصيب كبير.

كان هذا جزءا من حوارنا مع شقيقتي بعد أن خلا المجلس من الزوار.

– دعيني أبين لك قضية مهمة في دين الله، وهي أنه لا مكان للأفكار والوساوس في ديننا، ومن كان لديه شيء من ذلك يجب أن يتخلص منه في بداياته؛ لأنه كلما استمر ازداد سوءا وصعب التخلص منه، ولا سيما الوساوس في العبادات.. والآخرة والمآل والحساب؛ لأن هذه الأخيرة من العقيدة.

– أريد مزيد إيضاح، وسوف أنصت دون مقاطعة.

– أولا.. لا أحد منا دون ذنب، سواء في الماضي أم الحاضر أم المستقبل، وفي عقيدتنا أن للذنوب علاجا.

– من أسماء الله الحسنى، (الغفور)، و(الغفار)، ومن صفاته أنه (غافر الذنب) (الغفور) اقترن باسم الله (الرحيم)، فهو (الغفور الرحيم)، تكرر في كتاب الله هذان الاسمان مقترنين في إحدى وسبعين آية، (42) غفور رحيم و(15) غفورا رحيما(7) الغفور الرحيم و(7) لغفور رحيم، وهما أكثر اسمين مقترنين وردا في كتاب الله.. وكذلك من أسماء الله الحسنى (الغفار). دعيني أقرأ لك ما جاء في تفسير هذه الآية، خلال دقيقة جمعت على الشاشة ما جاء في بعض كتب التفسير، بدأت أقرأ لها:

قوله تعالى: {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول}.

     جمع جل وعلا في هذه الآية الكريمة، بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد؛ لأن مطامع العقلاء محصورة في أمرين، هما جلب النفع ودفع الضر، وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ { 49 } وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} (الحجر:49-50)، وقوله تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} (الأعراف:156)، وقوله تعالى في آخر الأنتعام: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام:165). وقوله في الأعراف: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ ۖ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأعراف:167) والآيات بمثل ذلك كثيرة ومعروفة.

كانت شقيقتي تنصت بتركيز.

-واسمعي الكلام التالي:

     اعلم أن الله تعالى وصف نفسه بكونه غافرا وغفورا وغفارا، وبأن له غفرانا ومغفرة وعبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل والأمر. أما إنه وصف نفسه بكونه غافرا فقوله: {غافر الذنب} (غافر: 3) وأما كونه غفورا فقوله: {وربك الغفور ذو الرحمة} (الكهف: 58) وأما كونه غفارا فقوله: {وإني لغفار لمن تاب) وأما الغفران فقوله: {غفرانك ربنا} (البقرة: 285) وأما المغفرة فقوله: {وإن ربك لذو مغفرة للناس} (الرعد: 6) وأما صيغة الماضي فقوله: في حق داود عليه السلام (فغفرنا له ذلك} (ص: 25) وأما صيغة المستقبل فقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 48) وقوله: {إن الله يغفر الذنوب جميعا} (الزمر: 53) وقوله في حق محمد صلى الله عليه وسلم : {ليغفر لك الله} (الفتح: 2) وأما لفظ الاستغفار فقوله: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} (محمد: 19) وفي حق نوح عليه السلام: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا} (نوح: 10) وفي الملائكة: {ويستغفرون لمن في الأرض} (الشورى: 5) واعلم أن الأنبياء عليهم السلام كلهم طلبوا المغفرة أما آدم عليه السلام فقال: {وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} (الأعراف: 23)، وأما نوح عليه السلام فقال: {وإلا تغفر لي وترحمني} (هود: 47)، وأما إبراهيم عليه السلام فقال: {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} (الشعراء: 82) وطلبها لأبيه: {سأستغفر لك ربي} (مريم: 47) وأما يوسف عليه السلام فقال في إخوته: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم} (يوسف: 92) وأما موسى عليه السلام ففي قصة القبطي: {قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} (القصص: 15) وأما داود عليه السلام: {فاستغفر ربه} (ص: 24) أما سليمان عليه السلام: {رب اغفر لي وهب لي ملكا} (ص: 35) وأما عيسى عليه السلام: {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} (المائدة: 118) وأما محمد صلى الله عليه وسلم فقوله: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} (محمد: 19) وأما الأمة فقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا} (الحشر: 10).

     وهي أن العبد له أسماء ثلاثة: الظالم والظلوم والظلام. فالظالم: {فمنهم ظالم لنفسه} (فاطر: 32) والظلوم: {إنه كان ظلوما جهولا} (الأحزاب: 72) والظلام إذا كثر ذلك منه، ولله في مقابلة كل واحد من هذه الأسماء اسم فكأنه تعالى يقول: إن كنت ظالما فأنا غافر، وإن كنت ظلوما فأنا غفور، وإن كنت ظلاما فأنا غفار: {وإني لغفار لمن تاب وآمن} (طه: 82).

ثم وصف نفسه بما يجمع الوعد والوعيد والترهيب والترغيب، فقال: {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير} فهذه ستة أنواع من الصفات:

الصفة الأولى: قوله: {غافر الذنب} قال الجبائي: معناه أنه غافر الذنب إذا استحق غفرانه إما بتوبة أو طاعة أعظم منه.

شعرت أني أطلت القراءة.

– هل تتابعين ما أقول؟!

– بل أنا مستمتعة بما أسمع أكمل جزاك الله خيرا.

– تابعت قراءتي.

     هذه الآية مشعرة بترجيح جانب الرحمة والفضل، لأنه تعالى لما أراد أن يصف نفسه بأنه شديد العقاب ذكر قبله أمرين كل واحد منهما يقتضي زوال العقاب، وهو كونه غافر الذنب وقابل التوب وذكر بعده ما يدل على حصول الرحمة العظيمة، وهو قوله {ذى الطول}، فكونه شديد العقاب لما كان مسبوقا بتينك الصفتين وملحوقا بهذه الصفة، دل ذلك على أن جانب الرحمة والكرم أرجح.

      ولقائل أن يقول ذكر الواو في قوله {غافر الذنب وقابل التوب} ولم يذكرها في قوله {شديد العقاب} فما الفرق؟ قلنا إنه لو لم يذكر الواو في قوله {غافر الذنب وقابل التوب} لاحتمل أن يقع في خاطر إنسان أنه لا معنى لكونه غافر الذنب إلا كونه قابل التوب، أما لما ذكر الواو زال هذا الاحتمال؛ لأن عطف الشيء على نفسه محال، أما كونه شديد العقاب فمعلوم أنه مغاير لكونه {غافر الذنب وقابل التوب} فاستغنى به عن ذكر الواو.

علقت، دون شعور.

– جميل، هذا الكلام جميل، بل رائع.

– دعينا نرجع إلى موضوع الذنوب السابقة، لا ينبغي للعبد أن يكون أسير ذنوبه في الماضي، فقد كان خير البشر بعد الأنبياء مشركين قبل إسلامهم، الإسلام يجبّ ما قبله والتوبة تجبّ ما قبلها، والمرء يحسن الظن بالله، ويتوب ويستغفر ويستمر في الطاعات، ويقبل على الله، ويتمسك بأداء الصلاة في وقتها والبعد عن أسباب المعصية، وإذا وقع رجع  وتاب واستغفر، وهكذا حتى يلق الله وهو على الطاعة والتوبة وحسن الظن بالله.