- خلق عظيم يدل على التقوى وخشية الله بالغيب، ذلك أنه إذا كان المسلم في خلوة، غض بصره عما حرّم الله.
- وهل هذا يشمل ما يشاهده المرء في الهاتف أو التلفاز؟
- بالطبع، فالأمر متعلق بما تشاهده، لا أين تشاهد! ذلك أن إطلاق البصر فيما حرّم الله يورث آثارا سيئة في القلب، وإذا لم ينته العبد فإن هذا المرض -إطلاق البصر- يزداد مع العمر، حتى لا يستطيع منعه ولا التخلص منه.
يقول الشيخ ابن عثيمين في شرح رياض الصالحين عند قوله -تعالى-: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (النور:٣٠). في هذه الآية دليل على وجوب التوبة من عدم غضّ البصر وحفظ الفرج؛ لأن غض البصر يعني: قصره وعدم إطلاقه؛ ولأن ترك غض البصر وحفظ الفرج كل ذلك من أسباب الهلاك وأسباب الشقاء وأسباب البلاء، وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء». (البخاري)، وهذا هو الواقع؛ لذلك قال -تعالى- عقب الأمر بغض البصر: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور:٣١)، وقوله -عز وجل-: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} يدل على أنه ينبغي لنا -بل يجب علينا- أن نتواصى بالتوبة وأن يتفقد بعضنا بعضا هل الإنسان تاب من ذنبه أو بقي مصرا عليه؟ فالخطاب موجه للجميع (جميعا أيها المؤمنون). كنت وصاحبي في مجلس الأربعاء -ديوان الملا- يستضيفون متحدثا كل شهر غالبا ما يكون أستاذا في الشريعة أو شيخا متميزًا، الحضور خليط من كل الفئات العمرية، مراهقون- ومن تجاوزوا الستين، تابع الضيف حديثه:
- يقول ابن تيمية: «فجعل الله -سبحانه- غضّ البصر وحفظ الفرج هو أزكى للنفس، وبين أن ترك الفواحش من زكاة النفوس» (العبودية ج1 ص33)، وفي الفتاوى عند قوله -تعالى-: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} «وأمره بالتوبة مما لا بد أن يدرك ابن آدم من ذلك، وقال أبو عبدالرحمن السلمي: سمعت أبا حسين الوّراق يقول: من غض بصره عن محرم أورثه الله بذلك حكمة على لسانه، يهتدي بها ويهدي بها إلى طريق مرضاته؛ وهذا لأن الجزاء من جنس العمل؛ فإذا كان النظر إلى محبوب فتركه لله عوضه الله ما هو أحبّ إليه منه».
استأذن أحد الحضور بسؤال:
- حديث النبي – صلى الله عليه وسلم -: «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس»، صحيح؟
- هذا الحديث عن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعني عن ربه -عز وجل-: «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من مخافتي، أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه» (قال الألباني: ضعيف جدا)، وأورده الحاكم في المستدرك عن حذيفة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة، فمن تركها من خوف الله أثابه الله -عز وجل- إيمانًا يجد حلاوته في قلبه» (قال الذهبي: حديث صحيح ولم يخرجاه).
فالحديث القدسي عن ابن مسعود ضعيف جدا، ورواية حذيفة صحهها الذهبي، وأنا أقول المعنى صحيح، ولست بمن يعلق على الألباني أو الذهبي! ذلك أن الذي يغض بصره، يورثه الله حلاوة إيمان في قلبه وتقوى بصيرته، وينور الله وجهه، ذلك أنه يغلق بابا عظيما من أبواب الشيطان إلى قلب ابن آدم، بل هو دليل على مراقبة الله وخشيته، سئل الجنيد بما يستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظر إليه! فالعين مرآة القلب، وإطلاق البصر يورث المعاطب، وغض البصر يورث الراحة، والعبد إذا غض بصره في شبابه، حفظ الله -تعالى- عليه نعمة البصر، وإذا أطلق بصره، ربما أصبح شيخا هرما، وهو ينظر إلى محارم الله ولا يستطيع أن يقضي حاجته! وأظن أن الجميع يعرف الحديث المتفق عليه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيدنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددى عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته». فلا ينظر إلا إلى ما يرضى الله -تعالى-، ولا يبطش إلا في رضا الله -عز وجل-، ولا يسمع إلا في طاعة الله -تعالى-، هذا خلق أولياء الله الذين يحبهم، وفي الحديث عن أبي أمامة قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «اكفلوا لي بست أكفل لكم الجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا وعد فلا يخلف، وإذا اؤتمن فلا يخن، وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكفوا أيديكم» (صحيح الجامع ). قال ابن تيمية: «فقد كفل بالجنة لمن أتى بهذه الخصال الست، فالثلاثة الأولى تبرئة من النفاق، والثلاثة الأخرى تبرئة من الفسوق، والمخاطبون مسلمون؛ فإذا لم يكن منافقا كان مؤمنا، وإذا لم يكن فاسقا كان تقيا؛ فيستحق الجنة». (مجموع الفتاوى 15/396). وقال ابن القيم: «والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان؛ فالنظرة تولد خطرة، ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة تقوى فتصير عزيمة حازمة؛ فيقع الفعل ولا بد، ما لم يمنع منه مانع، وفي هذا قيل: الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده» (الجواب الكافي 1-106). وفي الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا؛ فهو مدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» (متفق عليه واللفظ لمسلم)؛ فالعبد ينبغي أن يتوب عما يقع فيه من هذه الذنوب، ولا يتبع النظرة النظرة، ولا السمع السمع، ولا البطش البطش، وإلا وقع في المحظور الأكبر والله أعلم.