– من الفطرة أن يحب المرء الخير لنفسه، وأن يستأثر بكل ميزة ومنفعة دنيوية لذاته، وهذا الشعور لا شيء فيه؛ بل هو خلق في الجنس البشري كما لوازم الحياة الأخرى من الأكل والشرب والنوم، وجاء الإسلام ليهذب هذه الخصلة الفطرية حتى لا تطغى، فتصبح حسدا، أو عدوانا وظلما، فقال – صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (متفق عليه)، وفي حديث خالد بن عبدالله القسري عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أتحب الجنة؟ قلت نعم، قال – صلى الله عليه وسلم -: أحب للناس ما تحب لنفسك» (السلسلة الصحيحة)، وينبغي التنبيه هنا إلى أن لفظ (لا يؤمن)، و(لا يدخل الجنة)، لا تعني أنه كافر، أو أنه يخلد في النار؛ بل إيمانه لا يكمل، وأنه لا يدخل الجنة ابتداء، دون حساب أو عذاب، فهو نفي لكمال الإيمان، وليس لكل الإيمان. كنت وصاحبي في مسجد في منطقة (صباح الناصر)، أدركتنا صلاة المغرب في طريقنا إلى سوق الخضار الجديد، قررنا البقاء لسماع الخاطرة التي بادر الإمام إلى إلقائها، تابع -جزاه الله خيرا-: – في رواية في مسند أحمد: «حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير»، وهذه خصلة من خصال الإيمان، وخلق من مكارم الأخلاق التي تنبغي أن يدرب المسلم نفسه عليها. و(حب الخير للآخر)، ينبغي أن يتعدى حدود أخوة الرحم، وأخوة الجيرة، وأخوة المسجد؛ ليشمل أخوة الإسلام؛ فيحب لجميع المسلمين ما يحب لنفسه، فهذا الخلق فيه درجات كثيرة يرتقي بها المؤمن بحسب إيمانه، ففي الحديث عن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «فمن سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يأتوا إليه» (صحيح ابن ماجه). والمرء يستطيع أن يقيس هذه الخصلة في نفسه إن كان صادقا، وذلك بأن يرى مدى سروره إذا أصاب الخير غيره، وإذا نال الترقية زميله، وإذا رزق الله جاره، مالا كثيرا أو منزلا أو حظا وافرا من الدنيا، هل يفرح له كما يفرح لو أنه هو من نال ذلك؟ أظن أن كثيرا منا يتردد أن يقول نعم، ولا بأس بذلك، ولكن إياك وأن تحسده على ذلك! أقول هذا المقياس في الفرح لنيل أخيك شيئا، أحد مقاييس الإيمان في قلبك، عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: «ما نزل غيث بأرض إلا فرحت بذلك وليس لي فيها شاة ولا بعير، ولا سمعت بقاض عادل إلا دعوت الله له، وليس لي عنده قضية، ولا مررت بآية من كتاب الله إلا أحببت أن يعلم الناس منها ما أعلم». بعد انتهاء الخاطرة أدينا سنة المغرب، وتابعنا حديثنا في المركبة. – لقد كانت خاطرة مميزة، رزقنا الله إياها. – الحمدلله. – إن خلق (حب الخير للآخر)، ربما يبدأ بأن يدرب العبد نفسه ألا يدخل قلبُه شيء من تمني ما يناله الآخرون، بأن يذكر نفسه أن ما ناله غيره إنما كان بأمر الله وقضائه، ولاسيما إذا كان ينافس غيره على مال أو منصب، فما فاته لم يكن مكتوبا له ابتداء، وما ناله غيره كان مقدرا له قبل خلق السماوات والأرض ثم يرتقي، بعد ذلك بأن يبارك لغيره ويدعو له، بصدق، فإن الدعوة للآخرين بالخير، بصدق يزيل ما في القلب من بقايا حسد أو غيره، ويعين على ذلك أن يعلم أن دعوته لأخيه بالخير، ترجع عليه بالخير، كما في الصحيحين يقول الملك (آمين، ولك بمثل). استدرك علي صاحبي – أظن أن أول قضية ينبغي أن يذكر العبد نفسه بها، أن خزائن الخير كلها بيد الله، يقسمها -سبحانه- بعلمه وحكمته ولطفه، على من يشاء من عباده، فمن أراد الخير، فلينظر إلى السماء، لا إلى ما في أيدي الناس، وليدع الله بما يرد من خير الدنيا والآخرة، ولا ينشغل بما عند الآخرين، وإذا علم أن غيره نال خيرا فليفرح له وليدع له بالبركة والتوفيق، فيكون تعامل العبد مع الخالق لا مع الخلق، وإلا فبداية الحسد، النظر لما عند الآخر، وتمني نيله، ثم ينحدر إلى تمني زواله من غيره ليناله هو، وهذه هي الحالقة، (تحلق الدين) والعياذ بالله. وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يذكر الكبائر فيقول: هي كل ذنب رتب عليه الشارع عقوبة خاصة؛ فكل ذنب لعن النبي – صلى الله عليه وسلم – فاعله فهو من الكبائر، وكل ذنب فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة فهو من الكبائر، وكل ذنب فيه نفي إيمان مثل: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، فهو من الكبائر (أسباب رفع العقوبة- لابن تيمية). ويقول -رحمه الله- في (رسالة في أمراض القلوب وشفاؤها). وقد قال -تعالى-: {وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} (النساء). كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما، فهؤلاء المبطئون لم يحبوا لإخوانهم المؤمنين ما يحبون لأنفسهم، بل إن أصابتهم مصيبة فرحوا باختصاصهم! وإن أصابتهم نعمة لم يفرحوا لهم بها، بل أحبوا أن يكون لهم منها حظ؛ فهم لا يفرحون إلا بدنيا تحصل لهم أو شر دنيوي ينصرف عنهم؛ لأنهم لا يحبون الله ورسوله والدار الآخرة، ولو كانوا كذلك لأحبوا إخوانهم، وأحبوا ما وصل إليهم من فضله، وتألموا بما يصيبهم من المصيبة، ومن لم يسره ما يسر المؤمنين ويسوؤه ما يسوء المومنين فليس منهم.