– في حديث ماعز بن مالك الذي أقام عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – حد الزنا عجا! – ماذا تعني؟! – دعني أقرأ عن تفاصيل الحدث كما ورد في مسند الإمام أحمد. روى أحمد عن وكيع حدثنا هشام بن سعد أخبرني يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه (هزال بن يزيد الأسلمي) قال: كان ماعز بن مالك في حجر أبي، فأصاب جارية من الحي؛ فقال له أبي ائت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك، وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرج، فأتاه فقال: يا رسول الله، إني زنيت فأقم علي كتاب الله، فأعرض عنه، ثم أتاه الثانية فقال: يا رسول الله، إني زنيت فأقم علي كتاب الله، ثم أتاه الثالثة فقال: يا رسول الله، إني زنيت فأقم علي كتاب الله، ثم أتاه الرابعة فقال يا رسول الله، إني زنيت فأقم علي كتاب الله، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: إنك قد قلتها أربع مرات فبمن؟ قال بفلانة، قال هل ضاجعتها؟ قال: نعم. قال: هل باشرتها؟ قال: نعم. قال: هل جامعتها؟ قال: نعم. قال: فأمر به أن يرجم، قال: فأخرج به إلى الحرة، فلما رجم فوجد مس الحجارة جزع؛ فخرج يشتد، فلقيه عبدالله بن أنيس وقد أعجز أصحابه؛ فنزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله، قال: ثم أتى النبي – صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له؛ فقال: هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه. قال هشام فحدثني يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال لأبي حين رآه: «والله يا هزال لو كنت سترته بثوبك كان خيرا مما صنعت به». (حديث صحيح لغيره) عندما أقيم على ماعز الحد هرب، فلقيه عبدالله بن أنيس فضربه بوظيف بعير (وهو عظم فوق الرسغ من ساق البعير)، فقتله، فلمّا علم النبي – صلى الله عليه وسلم- كأنه عاتب من فعل ذلك فقال: «هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه»، والأعجب من ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم- عندما لقي هزال قال له: «والله يا هزال لو كنت سترته بثوبك كان خيرا مما صنعت به»! أي لو لم تنصحه أن يأتي ويعترف بجرمه ويصر على ذلك، لو سترته ونصحته بالتوبة لكان خيرا من أن يقام عليه الحد!. لم يخف صاحبي إعجابه بهذه الملاحظة. – أول مرة أنتبه إلى هذه النقطة في حديث ماعز المشهور، الستر مع التوبة خير من الإقرار بالذنب للحاكم وإقامة الحد! – نعم هذا لمن لم يكن من المجاهرين بالمعاصي، الناشرين للرذيلة، الداعين إلى الفاحشة، الله -سبحانه- يحب الستر، ومن أسمائه الحسنى (الستير)، والأحاديث التي تحث على ستر عورات المسلمين وعثراتهم وزلاتهم كثيرة، منها: روى الشيخان عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة». وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة». وروى أبو داود عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته» (صحيح أبي داود). وروى أبو داود عن راشد بن سعد عن معاوية بن أبي سفيان قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم، فقال أبو الدرداء كلمة سمعها معاوية من رسول الله نفعه الله -تعالى- بها» (صحيح أبي داود). وروى الشيخان عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه». وفي تفسير الطاهر بن عاشور عند قوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النور:19). من أدب هذه الآية أن شأن المؤمن ألا يحب لإخوانه المؤمنين إلا ما يحب لنفسه، فكما أنه لا يحب أن يشيع عن نفسه خبر سوء، كذلك عليه ألا يحب إشاعة السوء عن إخوانه المؤمنين. قال ابن القيم: «للعبد ستر بينه وبين الله، وستر بينه وبين الناس فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله، هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس» (الفوائدص64). قاطعني صاحبي: – كل هذه الأحاديث جميلة، وتبين جانبا من كمال الشريعة، ولكن بعض الناس يسكت والمعصية تقع أمام عينه، ويجالس أهل المعاصي ولا ينكر عليهم، ولا يبلغ عنهم، ألا يكون ذلك مثل قول الله -تعالى-: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة). – أحسنت يا أبا الوليد، الناس في المعاصي قسمان، مستور لا يعرف بشيء من المعاصي، ومجاهر مشتهر بالمعاصي، أما من ستر نفسه، إن اطلعت عليه يرتكب المعصية، استره وربما تنصحه فيما بينك وبينه، ولا تتحدث عن معصيته. عن أحمد بن حنبل: قال المروذي: قلت لأبي عبدالله أحمد بن حنبل: اطلعنا من رجل على فجور، وهو يتقدم يصلي بالناس، أخرج من خلفه؟ قال: اخرج من خلفه خروجا لا تفحش عليه. قال الإمام النووي: المعروف بالأذى والفساد يستحب ألا يستر عليه، بل ترفع قضيته إلى ولي الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة، هذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت. أما معصية رآه عليها وهو بعد متلبس بها، فتجب المبادرة بإنكارها عليه ومنعه منها على من قدر على ذلك، ولا يحل تأخيرها؛ فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر إذا لم تترتب على ذلك مفسدة. إذا كان الواجب عليه ستر عيوب عامة الناس الذين لا يجاهرون بالمعاصي، فإن العلماء وولاة الأمور أولى الناس بستر العيوب. روى أبو داود عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود» (صحيح أبي داود). قال صاحب كتاب عون المعبود: اعفوا عن أصحاب المروءات والخصال الحميدة، وذوي الوجوه من الناس، الذين لا يجاهرون بالمعاصي، ولكن تقع منهم بعض الزلات. روى أحمد عن عياض بن غنم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: «من أراد أن ينصح لسلطان بأمر فلا يبد له علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه له» (المسند)(حسن لغيره). وخلاصة الأمر يا أبا الوليد أن كل ابن آدم خطاء، وليس من أحد إلا وله خطأ لا يحب أن يطلع عليه أحد من الناس؛ ولذلك كان الستر على الناس خلقا وهديا نبويا؛ لما فيه من حفظ عورات المسلمين وسترهم والإمساك عما يسوؤهم.