– من تفاصيل الأسماء والصفات التي تعلمتها من رحلتنا الأخيرة إلى المدينة المنورة، أن هناك صفات لا تنسب إلى الله إلا مقيدة، مثل قوله -تعالى- في المكر: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال:30)، وقوله -عز وجل-: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (آل عمران:54)، وفي الخداع يقول -تعالى-: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (النساء: 142)، وفي النسيان يقول الله -تعالى-: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (التوبة:67)، فهذه الصفات لا تنسب لله -عز وجل- إلا مقيدة كما وردت في مواضعها.
– أحسنت يا (أبا عبدالرحمن)، لقد كانت رحلة ترويحية إيمانية علمية جميلة إلى المدينة وما حولها، رغم ارتفاع درجة الحرارة.
وهذه المسألة تشكل على المبتدئين؛ لذلك يجب التنبيه لها بين فترة وأخرى، ضمن القاعدة العامة : (صفات الله -عز وجل- المطلقة كلها صفات كمال وجلال وعظمة).
كنت وصاحبي في طريق عودتنا من المدينة المنورة، انطلقنا بعد صلاة الفجر على أن نتوقف في الرياض وقت الظهيرة، ثم نتابع إلى الكويت بعد صلاة العصر.
– وماذا عن صفة (الكيد)؟!
– ذكر الكيد (29) مرة في كتاب الله -تعالى-، نسبه الله -عز وجل- إلى ذاته الجليلة: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (الأعراف:183) (القلم:45)، وفي مقابلة كيد الكافرين: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (الطارق:15-17)، وإلى الشيطان: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (النساء:76)، وإلى السحرة: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (طه:69)، وإلى فرعون: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} (غافر:37)، وإلى الكافرين: {فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} (غافر:25).
قاطعني صاحبي:
– دعنا نبحث عن معنى الكيد في اللغة.
(الكيد)، إيقاع المكروه بالآخر على وجه المكر والخديعة، وهو مكروه في غالب أحواله، ولا يكون ممدوحا إلا إذا كان في باب المقابلة، ويأتي في اللغة على معان عدة: الحيلة، والخديعة، والحرب، والمكر، والاستدراج، وإرادة السوء بالآخر، ويكون بعض ذلك محمودا، مثل قوله -تعالى-: {كذلك كدنا ليوسف}، عن ابن عباس قال: كيد الله: العذاب والنقمة. والاستدراج من كيد الله بالكافرين.
– وما سنة الله في الكيد إن كانت هناك سنة إلهية؟
– نعم، سنة الله ثابتة نافذة دائمة، أنه -سبحانه- {لا يهدي كيد الخائنين} (يوسف:52)، ذلك أن كل خائن لا بد أن تعود خيانته على نفسه، ولا بد أن يتبين أمره ويتضح عاجلا أم آجلا.
– يبدو أن (كيد) كلمة لها دلالات لغوية عدة بحسب استخدامها.
– نعم هي كذلك، ومن الأمثلة التي تبين دقة معنى هذه الكلمة قول الله -تعالى- حكاية عن إبراهيم: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} (الأنبياء:57)، فقد سمى إبراهيم عزمه على تكسير أصنامهم (كيدا)؛ لاعتقاد المخاطبين أن الأصنام تدفع عن نفسها فلا يستطيع أن يمسها بسوء إلا على سبيل الكيد.
وفي قوله الله -تعالى-:
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (الأعراف:182-183)، فكيد الله بهؤلاء المكذبين، هو الاستدراج والإملاء، بما يفتح عليهم من خيرات الدنيا فيظنون أنهم على حق، ثم يأخذهم -عز وجل- فلا يفلتهم، كما في الحديث عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله -عز وجل- يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}».
وقوله -تعالى-: {يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} (الطور:46).
بيّن -جل وعلا في هذه الآية- أن كيد الكفار لا يغني عنهم شيئا في الآخرة، كقوله -تعالى-: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} (المرسلات:38-39)، أي فإن كان لكم كيد اليوم كما كان لكم في الدنيا، أي كيد بديني ورسولي فافعلوه، وبين أنه لا ينفعهم في الدنيا أيضا، كقوله -تعالى-: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} (الطور:42)، وقوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا} (الطارق:15-16) إلى غير ذلك من الآيات.
– فالخلاصة أن كيد الخائنين مفضوح، وكيد الشيطان ضعيف، وكيد الكافرين لا قيمة له، وكيد السحرة لا خير فيه، وكيد الله متين قوي، وهو -سبحانه- يكيد لأنبيائه وأوليائه، كيدا فيه الخير والفوز والفلاح، ويكيد -سبحانه- بالكافرين؛ فيبطل كيدهم، ويذرهم في ضلالهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر فلا يفلتهم!