– هذه الآية من سورة الفتح، يذكر الله -تعالى- أنها إحدى سننه التي لا تتبدل، وقد حيرتني صراحة ؛ وذلك أن معاركنا الأخيرة مع (الكفار)، كانت جيوشنا هي التي تولي الأدبار؟!
لم يخف صاحبي علامات الاستفهام التي كانت واضحة في طريقة حديثه وتعابير وجهه!
ابتسمت!
– هاتان الآيتان هي الثانية والعشرون والثالثة والعشرون من سورة الفتح، يبين الله -عز وجل- موقفا من مواقف المؤمنين مع الكفار، ونص الآيتين: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)} (الفتح)، وحتى تكتمل الصورة نقرأ الآية قبلها.
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} (الفتح)، نزلت هذه الآية في الحديبية وذلك أن جمعا من المشركين أرادوا أخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم – والمسلمين على حين غرة؛ فأوحى الله إلى نبيه – صلى الله عليه وسلم – بأمره فأسرهم، قيل: كانوا ثلاثين أو خمسين رجلا، ثم أفرج عنهم، فيخبر الله -عز وجل- أنه لو كان هناك قتال بينكم وبين أهل مكة، {لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ}، ولكن الله كف أيدي الكفار، ولم يقع قتال، وعلل ذلك بقوله -عز وجل-، في الآية 25، {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (الفتح:25).
قاطعني:
– أعلم كل هذا، وجميل أن أتيت بسبب النزول، والتفسير لهذه الآيات، لكنَّ إشكالي في قول الله -تعالى-: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الفتح:23)، المعنى الذي يتبادر إلى ذهني، أنه ولو كان قتال بين المؤمنين والكفار، فإن الكفار يولون الأدبار، هذه من سنة الله التي لا تتبدل ولا تتأخر!
كان صاحبي متحمسا بعض الشيء.
– دعني أبيّن لك المعنى حتى يزول الإشكال من ذهنك؛ ذلك أنك يجب أن تطَّلع على المشهد كاملا حتى تعرف المعنى المراد من هذه السنة الإلهية.
في التحرير والتنوير، المعنى: سن الله ذلك سنة، أي: جعله عادة له أن ينصر المؤمنين على الكافرين إذا كانت نية المؤمنين نصر دين الله، كما قال -تعالى-: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (الحج:40)، أي ضمن الله النصر للمؤمنين بأن تكون عاقبة حروبهم نصرا وإن كانوا يغلبون في بعض المواقع كما وقعة في أحد، وقد قال -تعالى-: {والعاقبة للمتقين} (القصص:13)، وقال: {والعاقبة للتقوى} (طه:132)، وإنما يكون كمال النصر بحسب ضرورة المؤمنين وبحسب الإيمان والتقوى؛ ولذلك كان هذا الوعد غالبا للرسول ومن معه، فيكون النصر تاما في حال الخطر كما كان يوم بدر، ويكون سجالا في حال السعة كما في وقعة أحد، وقد دل على ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم – يوم بدر: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» (انتهى)، وتفصيل هذه الموقف ورد في صحيح مسلم، عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: لماّ كان يوم بدر، نظر النبي -صلى الله عليه وسلم – إلى أصحابه وهم ثلاث مئة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي – صلى الله عليه وسلم – القبلة ثم مدّ يديه وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: اللهم أين ما وعدتني؟ اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدأ، فما زال يستغيث ربه -عز وجل- ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر -رضي الله عنه- فأخذ رداءه فرده عليه، ثم قال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، وأنزل الله -عز وجل-: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (الأنفال:9)، فكانت هزيمة الكفار ونصر المؤمنين.
عقب صاحبي:
-مع الأسف، كثير من الشباب المتحمس يظن أنه ما التقى جيش من المؤمنين بجيش من الكفار إلا كان النصر للمؤمنين! فيلقون بأنفسهم في الهلاك دون اتخاذ الأسباب، ودون علم محيط بأسباب النصر، لفهمهم الخطأ بهذه السنة الإلهية، وأنا شخصيا لم يكن لدي فهم شامل لهذه السنة.
– دعني أكمل لك تفصيل هذه السنة من كتب التفسير.
ويكون لمن بعد الرسول – صلى الله عليه وسلم – من جيوش المسلمين بحسب تمسكهم بوصايا الرسول -صلى الله عليه وسلم -؛ ففي (صحيح البخاري) عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: «يأتي زمان يغزو فئام من الناس، فيقال: فيكم من صحب النبي؟ فيقال: نعم، فيفتح عليه، ثم يأتي زمان فيُقال: فيكم من صحب أصحاب النبي؟ فيقال: نعم فيفتح ثم يأتي زمان فيقال: فيكم من صَحِب من صَاحَبَ النبي؟ فيقال: نعم فيُفتحُ»، ومعنى {خلت} مضت وسبقت من أقدم عصور اجتلاد الحق والباطل، وفائدة هذا الوصف الدلالة على اطرادها وثباتها.
والمراد: أن ذلك سنة الله مع الرسل قال -تعالى-: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة: 21).
ولما وصف تلك السنة بأنها راسخة فيما مضى، أعقب ذلك بوصفها بالتحقق في المستقبل تعميماً للأزمنة بقوله : {ولن تجد لسنة الله تبديلاً}؛ لأن اطراد ذلك النصر في مختلف الأمم والعصور، وإخبار الله -تعالى- به على لسان رسله وأنبيائه، يدل على أن الله أراد تأييد أحزابه، فيُعلم أنه لا يستطيع كائن أن يحول دون إرادة الله -تعالى-.
وفي تفسير السعدي:
هذه بشارة من الله لعباده المؤمنين بنصرهم على أعدائهم الكافرين، وأنهم لو قابلوهم وقاتلوهم {لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا} يتولى أمرهم، {وَلا نَصِيرًا} ينصرهم ويعينهم على قتالكم بل هم مخذولون مغلوبون وهذه سنة الله في الأمم السابقة، أن جند الله هم الغالبون {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا}.
وفي تفسير الطبري
يقول -تعالى ذكره للمؤمنين به من أهل بيعة الرضوان-: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله أيها المؤمنون بمكة {لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ}، يقول: لانهزموا عنكم، فولوكم أعجازهم، وكذلك يفعل المنهزم في الحرب {ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}، يقول: ثم لا يجد هؤلاء الكفار المنهزمون عنكم، المولوكم الأدبار، وليا يواليهم على حربكم، ولا نصيرا ينصرهم عليكم؛ لأن الله -تعالى ذكره- معكم، ولن يغلب حزب الله ناصره.
عن قتادة قوله: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأدْبَارَ } يعني كفار قريش، قال الله: {ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا} ينصرهم من الله.
وقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} لو قاتلكم هؤلاء الكفار من قريش، لخذلهم الله حتى يهزمهم عنكم خذلانه أمثالهم من أهل الكفر به، الذين قاتلوا أولياءه من الأمم الذين مضوا قبلهم.
وقوله: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا}، يقول -جل ثناؤه- لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – ولن تجد يا محمد لسنة الله التي سنها في خلقه تغييرا، بل ذلك دائم للإحسان جزاؤه من الإحسان وللإساءة والكفر العقاب والنكال.