صاحبي دقيق في كل شيء، يدهشني -أحيانا- بدقة ملاحظاته، كنا في مكتبتي كعادتنا، بعد صلاة الجمعة، نقضي نصف ساعة  تقريبا نتحاور معظم الأحيان حول قضايا شرعية، بدأ حواره: – الكيد، والمكر، والخداع، كلمات وردت في كتاب الله، تتشابه، وتفترق، ليتك تبحث لنا عن معانيها. أعجبتني ملاحظة صاحبي، جلست خلف الحاسوب، هذا الجهاز الذي سهل علينا حياتنا، أصبحنا ننجز في دقائق معدودة ما كنا نحتاج لأيام من البحث. إليك يا (أبا عبدالله) ما وجدت في المكر. وردت كلمة (مكر) ومشتقاتها 43 مرة في القرآن وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: والعرب قد تطلق الكيد على المكر، والعرب قد يسمون المكر كيداً ووردت الكلمتان في كتاب الله فتبين الفرق بينهما، فالمكر إظهار الطيب وإبطان الخبيث، وهو الخديعة، وقد يكون حسنا أو سيئا، وقد بين -جل وعلا- أن المكر السيئ لا يرجع ضرره إلا على فاعله، وهذه سنة إلهية لا تتبدل ولا تتعطل، بل نافذة على الجميع، وذلك في قوله -تعالى-: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلا نُفُوراً استكبارا في الأرض وَمَكْرَ السيء وَلَا يحيق المكر السيء إلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تحويلاً} (فاطر: 43). قال -تعالى- في بيان معنى المكر وجزائه: {قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى الله بُنْيَاهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العَذَابِ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} (النحل: 26)، وهذا في قصد النمرود، فكان مكرهم بنيان الصرح ليصعد إلى السماء، فكان مكر الله بهم أن تركهم حتى تصاعدوا بالبناء، فأتى الله بنيانهم من القواعد، فهدمه عليهم. وذكر الله في سورة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف:102)، وبين -سبحانه- في أول هذه السورة الكريمة أن الذي أجمعوا أمرهم عليه هو جعله في غيابة الجب، وأن مكرهم هو ما فعلوه بابيهم يعقوب وأخيهم يوسف، وذلك في قوله: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب}. وذكر -جل وعلا- (المكر) في آيات كثيرة مثل: مكر كفار مكة بقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُقْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال:30)، وذكر بعض مكر اليهود بقوله: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)} ( آل عمران). ومعنى: {والله خير الماكرين} أي أقواهم عند إرادة مقابلة مكرهم بخذلانه إياهم. ويجوز أن يكون معنى خير الماكرين: أنّ الإملاء والاستدراج، الذي يقدّره للفجار والجبابرة والمنافقين، الشبيه بالمكر في أنّه حَسَن الظاهر سَيِّئ العاقبة، هو خير محض لا يترتب عليه إلاّ الصلاح العام، وإن كان يؤذي شخصاً أو أشخاصاً، فهو من هذه الجهة مجرّد عما في المكر من القُبح، وبين بعض مكر قوم صالح بقوله: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} (النمل: 50-51). وذكر مكر قوم نوح بقوله: {وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آهِتَكُمْ} (نوح: 22-23) الآية. وبين مكر رؤساء الكفار في قوله: {بَلْ مَكْرُ الليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفر بالله} (سبأ: 33) الآية. وقال -عز وجل-: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} (الاعراف). واعلم أن المراد بـ(أمن مكر الله) في هذه الآية هو الأمن الذي من نوع أمن أهل القرى المكذبين، الذي ابتُدئ الحديث عنه من قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} (الأعراف: 94) ثم قوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} الآيات، وهو الأمن الناشئ عن تكذيب خبر الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وعن الغرور بأن دين الشرك هو الحق؛ فهو أمن ناشئ عن كفر، والمأمون منه هو وعيد الرسل إياهم وما أطلق عليه أنه مكر الله. وقال -تعالى- في ذم الكافرين: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمَكُرُونَ} (يونس:21). ومكرهم في آيات الله هو الاستهزاء بها وإنكارها ووصفها بما لا يليق، ولما كان الكلام متضمناً التعريض بإنذارهم، أمر الرسول أن يعظهم بأن الله أسرع مكراً، أي منكم، فجعل مكر الله بهم أسرع من مكرهم بآيات الله، والمعنى أن الله أعجل مكراً بكم منكم بمكركم بآيات الله. وجملة: {إنّ رسلنا يكتبون ما تمكرون} خطاب للمشركين مباشرة تهديداً من الله، وتأكيد الجملة لكون المخاطبين يعتقدون خلاف ذلك؛ إذ كانوا يحسبون أنهم يمكرون بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وأن مكرهم سيمر عليه دون أن يشعر به! فأعلمهم الله بأن الملائكة الموكلين بإحصاء الأعمال يكتبون ذلك، وعبر بالمضارع في {يكتبون} و {يمكرون} للدلالة على التكرر، أي تتكرر كتابتهم كلما يتكرر مكرهم، وقال -تعالى-: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْس وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْيَ الدَّارِ} (الرعد:42). وفي هذا التشبيه رمز إلى أن عاقبتهم كعاقبة الأمم التي عرفوها؛ فنقص أرض هؤلاء من أطرافها من مكر الله بهم جزاء مكرهم؛ فلذلك أعقب بقوله: {وقد مكر الذين من قبلهم} أي كما مكر هؤلاء. والمعنى: مكَرَ هؤلاء ومكر الذين من قبلهم، وحل العذاب بالذين من قبلهم؛ فمكر الله بهم وهو يمكر بهؤلاء مكراً عظيماً كما مكر بمن قبلهم، وإنما جعل الله (جميع المكر) بتنزيل مكر غيره منزلة العدم، وتقديم المجرور في قوله: {فلله المكر جميعاً} للاختصاص، أي له -سبحانه- لا لغيره وقال -تعالى-: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (إبراهيم:46). والعندية إما عندية عِلم، أي وفي علم الله مكرهم، وإما عندية تكوين ما سمي بمكر الله وتقديره في إرادة الله، فيكون وعيداً بالجزاء على مكرهم في كلا الحالين، أي وما كان مكرهم زائلة منه الجبال، وهو استخفاف بهم، أي ليس مكرهم بمتجاوز مكر أمثالهم، وما هو بالذي تزول منه الجبال، وفي هذا تعريض بأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – والمسلمين الذين يريد المشركون المكر بهم لا يزعزعهم مكرهم؛ لأنهم كالجبال الرواسي. انتهيت من قراءة ما جمعت عن (المكر)، قال صاحبي: – وماذا عن (الكيد) ؟ – سوف أجهز لك بحثا آخر -إن شاء الله-.