اقترح علي صاحبي أن نؤدي صلاة الجمعة في مسجد جديد، لم نجمع فيه من قبل. – معظم المساجد يدخل الخطيب وقت الصلاة، يصعد المنبر، يقرأ من الخطبة التي وضعت له ثم يصلي وينصرف، وإذا اجتهد اجتهد في طريقة الإلقاء، من رفع النبرة وخفضها. ابتسمت معلقا على ملاحظة صاحبي. – وماذا في ذلك؟ عادة الخطب الجاهزة تكون مفيدة لجمهور المسلمين وفيها من العلم والموعظة ما ينفع العامة. لم يعقب صاحبي، فسألته: – وماذا عن خطبة اليوم؟ ماذا سيكون موضوعها؟ – خطبة الوزارة الرسمية (كلمة التوحيد). – موضوع جميل، ومهم، ونافع، ويحتاجه العامة. – لنر كيف سيلقيها الخطيب. – بعد الصلاة، وكان موضوع الخطبة مختلفا عن توقع صاحبي، تناول الخطيب (سنة إلهية فيمن يترك شيئا لله). – ما رأيك بالخطبة؟ – بصراحة، استمتعت بها، على غير العادة، لقد أجاد في كل الجوانب، الموضوع، والأداء، والفائدة، وتخريج الأحاديث، ولاسيما الحديث عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «من ترك اللباس تواضعا لله وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها» (صحيح الترمذي)؛ فقد يظن المرء أن هذا النص لا يتفق مع قول الله -تعالى-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف:32)، وقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إذا آتاك الله مالا فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته» (صحيح الجامع). ولكن الشيخ -جزاه الله خيرا- بين أن ترك اللباس باهظ الثمن، إنما من باب التواضع لله، وإلا فالثياب الحسنة من السنة. بعد أن خرجنا من الزحمة وسلكنا طريقنا نحو المجمع الذي اتفقنا أن نتناول الغداء فيه، عقبت على مقالته. – أجمل ما في الخطبة بالنسبة لي، هي بيان سنة إلهية من السنن الثابتة الدائمة، وهي أن «من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا مما ترك». هذه قاعدة عامة، وقانون دائم، يدفع العبد أن يترك المحرمات أولا، يريد وجه الله، ويترك المباحات يريد وجه الله، وهنا يحضرني حديث معاذ بن أنس عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله -سبحانه وتعالى- على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء» (رواه الترمذي وأبو داود – صحيح الترغيب). وأحسن الخطيب بذكره قصة صهيب الرومي – رضي الله عنه – عندما أراد الهجرة من مكة وتبعه نفر من قريش حتى أدركوه ليرجعوه، فعرض عليهم ماله كله الذي في مكة على أن يتركوه يلحق برسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ففعلوا، فلما رآه النبي – صلى الله عليه وسلم – قال له مبشرا: «ربح البيع يا أبا يحيى، ربح البيع يا أبا يحيى» وفيه نزل قول الله -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة:207)، وحديث النبي – صلى الله عليه وسلم -: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع لله إلا رفعه -عز وجل-» (مسلم). وأصرح من ذلك حديث النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إنك لن تدع شيئا لله -عز وجل- إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه» (السلسلة الصحيحة)، قال ابن القيم -رحمه الله-: «وقوله من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه: حق، والعوض أنواع مختلفة، وأجل ما يعوض به: الأنس بالله ومحبته وطمأنينة القلب به، وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه -تعالى-» (الفوائد). تابعت كلام صاحبي. – هكذا هو الشيخ ابن القيم -رحمه الله- يتعامل مع القلوب والإيمانيات، ولم يذكر أن العوض يكون أيضا في الدنيا، وقد ذكر هو ذاته أمثلة من العوض في (روضة المحبين)، يقول: «لما عقر سليمان بن داود -عليهما السلام- الخيل التي شغلته عن صلاة العصر حتى غابت الشمس، عوضه الله بالريح، تسير به، غدوها شهر ورواحها شهر: (أي يقطع بها في الغداة مسافة ما يقطعه بالخيل شهرا كاملا، وكذلك في العصر!)» ويتابع ابن القيم أمثلته: «ولما ترك المهاجرون ديارهم لله، وأوطانهم التي هي أحب شيء إليهم أعاضهم الله أن يفتح عليهم الدنيا وملكهم شرق الأرض وغربها». هذه سنة إلهية لا تتبدل ولا تتعطل أبدا. أدركنا المكان الذي نريد، وذلك أن الطريق كانت سالكة والمسافة قصيرة. تابعنا حديثنا. – والظاهر أن معظم العوض يكون في الآخرة كما قال ابن دقيق العيد -رحمه الله-: «فمن المعلوم أن جميع ما في الدنيا، لا يساوي ذرة مما في الجنة» فتح الباري . ومن الأدلة أن العوض في الآخرة أضمن، حديث أبي هريرة -]- قال رسول الله -[-: «من سره أن يسقيه الله الخمر في الآخرة فليتركها في الدنيا، ومن سره أن يكسوه الله الحرير في الآخرة فليتركها في الدنيا» (صحيح الترغيب)، ومما يذكر في هذا الباب قصة زواج والد عبدالله بن المبارك.. الإمام المعروف: – فقد كان المبارك رقيقا فأعتقه سيده، وعمل أجيرا عند صاحب بستان، وفي يوم خرج صاحب البستان ومعه نفر من أصحابه إلى البستان، وأمر المبارك أن يحضر لهم رمانا حلوا، فجمع لهم فلما ذاقه قال للمبارك: أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟ فقال المبارك: لم تأذن لي أن أكل حتى أعرف الحلو من الحامض؛ فظن صاحب البستان أن المبارك يخدعه، وقال له: أنت منذ كذا وكذا سنة تحرس البستان وتقول هذا؟ ثم سأل بعض الجيران عنه فشهدوا له بالخير والصلاح وأنهم ما عرفوا أنه أكل رمانة واحدة، فجاءه صاحب البستان وقال له إذا أردت أن أزوج ابنتي فممن أزوجها؟ فقال المبارك : إن اليهود يزوجون على المال، والنصارى يزوجون على الجمال، والمؤمنين يزوجون على التقوى والدين فانظر من أي الناس أنت؟ فقال: وهل أجد لابنتي من هو خير منك؟ وعرضها عليه فقبل المبارك وبنى بها ورزق منها أولادا، كان منهم عبدالله بن المبارك -رحمه الله-. – ختم صاحبي كلامه.. أنا أقسم بالله وأجزم يقينا دون شك أن «من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه»، على العبد فقط أن يكون صادقا مع الله، ويصلح نيته، وأن يترك هذه المنهيات يريد رضا الله، ورغبة فيما عند الله، وسوف ينال ما يريد، دون أدنى ريب.