قبل عام، دعاني زميلي -في العمل من تونس- ليريني الشقة الجديدة التي استأجرها، كان  مسرورا بها؛ لكبر مساحتها وإطلالتها الجميلة على البحر، وتوفر الخدمات حولها، كان يجهزها قبل أن تأتي زوجته وابنته إلى الكويت للمرة الأولى. رافقني بعد صلاة ظهر الثلاثاء الماضي إلى مكتبي، بدأت عليه علامات الضيق، وعدم الارتياح. – أفكر أن أغير السكن. استغربت رغبته. –  شقتك  جميلة، وموقعها مميز، وإطلالتها فاخرة. – نعم كل ذلك صحيح، ولكن جيراننا -مع الأسف-، مجموعة من الشباب الذين يسهرون كل أسبوع تقريبا، يوم الخميس ليلة الجمعة إلى ساعات الصباح الأولى، ونحن لا ننام تلك الليلة. – هل تحدثت معهم؟ – في البداية شكوت الأمر إلى (حارس المبنى)، أظهر اهتماما، ولكن يبدو أنهم كسبوه لناحيتهم بالمال! وتحدثت إلى مالك الشقة، ووعدني خيرا ولم يتغير شيء، طرقت الباب ذات مرة عليهم، بعد صلاة العصر، كان واحد منهم فقط في الشقة، تعرفت عليه، تحدثت معه بلطف. – طلب مني أن نتحدث في بهو مدخل المبنى. – نحن خمسة من الشباب اثنان منا متزوجان، بعضنا يعمل في القطاع النفطي وبعضنا في القطاع الأمني، عملنا فيه نظام النوبات، نرتب أمورنا ونرفه عن أنفسنا يوم الخميس، ليلة الجمعة. – ألا تصلون الجمعة؟! – في أغلب الأحيان، لا؛ لأننا نكون نياما «ورفع القلم عن النائم حتى يصحو»! – هذا فهم خطأ للحديث؛ وذلك  أن «من  ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه» (صحيح أبي داود). – عسى الله أن يهدينا، ونحافظ على الجمعة. أغاظتني ردوده الجاهزة، وعدم مبالاته. – وماذا فعلت معه؟ تابعت حديثي معه مع علمي أنني لن أصل إلى شيء. – (الهداية) نعم من الله، ولكن لها أسبابها، الله -سبحانه وتعالى- وضع شروطا للهداية، من استوفى هذه الشروط نال الهداية، ومن لم يأخذ بها تركه الله لما اختاره. قاطعني. –  كما آية في القرآن يقول الله فيها: {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ}. – نعم آيات كثيرة، ولكن حاشا لله أن يظلم أحدا. وإلا، لماذا يثيب من  يهدي، ويعذب من يضل، إذا لم يكن للعبد دور في الهداية والضلال؟ لا ينبغي أن نصف الله بهذه الطريقة، الله -سبحانه وتعالى- يهدي من  أراد الهداية وبذل أسبابها، ويضل من ترك أسباب الهداية ولم يردها، فيتركه الله -عز وجل- لما اختار، يقول -تبارك وتعالى-: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (فاطر:8)، بمعنى: الذي يريد العمل السيئ ويمارسه ويرى أنه حسن يتركه الله  لما أراد، وكذلك يقول الله -عز وجل-: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر:3)، هو الذي اختار الكفر فتركه الله لاختياره وإصراره، ويقول -تعالى-: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (غافر:28)؛ فالذي يختار طريق الضلال، ويسير فيه ويعرض عن طريقة الهداية، يتركه الله، وهذا معنى (يضله الله)، أما من أحب الهداية، وأرادها صادقا، وبذل أسبابها، فإن الله يهديه ويوفقه ويحفظه، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (محمد:17)، يقول -تعالى-: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (المائدة:16). ويقول -سبحانه-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (يونس:9). ويقول -عز وجل-: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} (النساء:175). – أظن أن الإنسان يعلم في أعماق نفسه، أنه إذا أراد الهداية يصل إليها، ولكن من اعتاد الذنوب والبعد عن طاعة الله، تصعب عليه الرجعة، ويزين له الشيطان ما هو فيه، ويلقي في قلبه، أن الهداية بيد الله، لو أراد الله له الهداية ما استطاع أحد أن يضله، فيبقى على ما هو عليه. قاطعت صاحبي. – وإلى ماذا انتهى حوارك مع جارك؟ – تبين لي أنه يعلم أن ما يفعله خطأ، وأنه يعصي الله بترك الواجبات، والوقوع في المحرمات، يعلم كل ذلك، وأنه لو أراد أن يتوقف فإنه يستطيع ذلك، ولكنه يريد أن يتمتع بحياته، إلى حين، ثم يرجع إلى الله. – وما الضمان أنه سيبقى حتى تكون له فرصة الرجوع. سألته، عن ذلك، قال إذا كان ذلك، فإنه أمر الله لا يرد! – وكيف ختمت حديثك معه. – ختمته، بطلب مراعاة الجيرة، وحسن التعامل مع الجار، ولكن عقدت العزم على ترك المكان كما في الحديث. «اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة؛ فإن جار البادية يتحول» (صحيح الترغيب).