– بعض الأحكام الشرعية تبدو لبعض الناس (غير منطقية)، ولكن المؤمن يعلم يقينا أنها من لدن حكيم عليم، يؤمن بها ويعتقدها ويطبقها وإن لم تظهر له حكمتها، من ذلك زواج المسلم من النصرانية، وتحريم زواج الكافرة، وتحليل البيع وتحريم الربا، وإن كانت بعض المعاملات متشابهة، إباحة أكل طعام أهل الكتاب وتحريم طعام الكفار من الذبائح، وأحكام المنافقين ومعاملتهم بالإسلام رغم أنهم أشد خطرا من الكفار. – دعنا نتوقف عند هذه الأخيرة. – تعني التعامل مع المنافقين؟ – نعم. كنت وصاحبي في رحلة قصيرة إلى لبنان، وقد انقطعنا عنه لأكثر من ثلاث سنوات، أراد صاحبي تفقد منزله الصغير في منطقة (حمانا)، غادرنا يوم السبت على أن نرجع يوم الاثنين. – المنافقون فئة أظهرت الإيمان وأبطنت الكفر، شهد الله على كذبهم وأنزل سورة كاملة فيهم، غير الآيات الكثيرة في بيان أخلاقهم وتصرفاتهم، في سورة البقرة وآل عمران والنساء والتوبة التي تسمى (الفاضحة)؛ لكثرة ما ذكرت من أخلاقهم وتصرفاتهم، بقوله -عز وجل-: ومنهم، ومنهم، ومنهم، ولم تظهر هذه الفئة إلا في المدينة بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم – وما سنة الله فيهم؟ – يقول الله -تعالى-: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (الأحزاب:60-62). قررنا قضاء الليلتين في فندق (وادي -فيو)، تجنبا لعملية تنظيف البيت وتجهيزه. كان حديثنا بعد وجبة الإفطار، نحتسي القهوة في الشرفة المطلة على الوادي الأخضر. –  هذه الآيات وغيرها تبين أن الله -عز وجل- أمر رسوله – صلى الله عليه وسلم – بالسكوت عن المنافقين وعدم قتالهم ما داموا لا يؤذون المسلمين علانية، وكان المنافقون يحذرون أن ينزل أمر من الله لرسوله أن يستأصلهم، فكانوا يرتكبون الأخطاء ويعتذرون، ويخطئون ويرجعون، ويقولون ثم ينكرون، هكذا كان ديدنهم، وفي هذه الآيات من سورة الأحزاب، أعطاهم الله إنذارا واضحا، إن لم ينتهوا سيأتي الأمر باستئصالهم وإخراجهم من المدينة، مع استحقاقهم للعنة الله في جميع الأحوال، وفي تفسير هذه الآيات إليك ما ورد. {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}، أي: مرض شك أو شهوة {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ}، أي: المخوفون المرهبون الأعداء، المحدثون بكثرتهم وقوتهم، وضعف المسلمين. ولم يذكر المعمول الذي ينتهون عنه، ليعم ذلك، كل ما توحي به أنفسهم إليهم، وتوسوس به، وتدعو إليه من الشر، من التعريض بسب الإسلام وأهله والإرجاف بالمسلمين وتوهين قواهم، والتعرض للمؤمنات بالسوء والفاحشة، وغير ذلك من المعاصي الصادرة، من أمثال هؤلاء. {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أي: نأمرك بعقوبتهم وقتالهم ونسلطك عليهم، ثم إذا فعلنا ذلك، لا طاقة لهم بك، وليس لهم قوة ولا امتناع، ولهذا قال: {ثم لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا} أي: لا يجاورونك في المدينة إلا قليلا بأن تقتلهم أو تنفيهم. وهذا فيه دليل، لنفي أهل الشر، الذين يتضرر بإقامتهم بين أظهر المسلمين، فإن ذلك أحسم للشر، وأبعد منه، ويكونون {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِلُوا تَقْتِيلا}، أي مبعدين أين وجدوا لا يحصل لهم أمن ولا يقر لهم قرار، يخشون أن يقتلوا، أو يحبسوا، أو يعاقبوا. {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} أن من تمادى في العصيان، وتجرأ على الأذى، ولم ينته منه فإنه يعاقب عقوبة بليغة. {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا}، أي تغييراً، بل سنته -تعالى- وعادته جارية مع الأسباب المقتضية لأسبابها. وحرف {في} للظرفية المجازية، شُبهت السنة التي عوملوا بها بشيء في وسطهم، كناية عن تغلغله فيهم وتناوله جميعهم، ولو جاء الكلام على غير المجاز لقيل: سنة الله مع الذين خلوا. و{الذين خلوا} الذين مَضَوا وتقدموا. والأظهر أن المراد بهم من سبقوا من أعداء النبي – صلى الله عليه وسلم – الذين أذن الله بقتلهم، مثل الذين قتلوا من المشركين، ومثل الذين قتلوا من يهود قريظة، وهذا أظهر؛ لأن ما أصاب أولئك أوقع في الموعظة؛ إذ كان هذان الفريقان على ذكر من المنافقين وقد شهدوا بعضهم وبلغهم خبر بعض. ويحتمل أيضاً أن يشمل {الذين خلوا} الأمم السالفة الذين غضب الله عليهم لأذاهم رسلهم؛ فاستأصلهم الله -تعالى- مثل قوم فرعون وأضرابهم. وذيل بجملة {ولن تجد لسنة الله تبديلاً} لزيادة تحقيق أن العذاب حائق بالمنافقين وأتباعهم إن لم ينتهوا عما هم فيه وأن الله لا يخالف سنته؛ لأنها مقتضى حكمته وعلمه فلا تجري متعلقاتها إلا على سنن واحد. والمعنى: لن تجد لسنن الله مع الذين خَلَوْا من قبل ولا مع الحاضرين ولا مع الآتين تبديلاً، وبهذا العموم الذي أفاده وقوع النكرة في سياق النفي تأهلت الجملة لأن تكون تذييلاً. وفي سورة التوبة (الفاضحة) يقول-تعالى-: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} (التوبة:64-66). في هذه الآيات دليل على أن من أسر سريرة خصوصا السريرة التي يمكر فيها بدينه ويستهزئ به وبآياته ورسوله فإن الله -تعالى- يظهرها ويفضح صاحبها، ويعاقبه أشد العقوبة، وأن من استهزأ بشيء من كتاب الله أو سنة رسوله الثابتة عنه أو سخر بذلك أو تنقصه أو استهزأ بالرسول أو تنقصه فإنه كافر بالله العظيم وأن التوبة مقبولة من كل ذنب وإن كان عظيما.