– في تفسير قول الله -تعالى-: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء:105)، سمعت في المذياع أن الزبور هو إشارة إلى الكتب المنزلة دون تحديد كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وزبور داوود، بمعنى الكتب السابقة للقرآن، وأن الذكر هو أم الكتاب، كما في قوله -تعالى-: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (الرعد:39)، وبصراحة استغرب هذا التفسير! – نعم، هذا ما ورد في تفسير ابن عاشور، وكذلك تفسير ابن كثير، قال الأعمش: سألت سعيد بن جبير عن قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ}، فقال الزبور: التوراة والإنجيل والقرآن، وقال مجاهد: الزبور: الكتاب، وقال سعيد بن جبير: الذكر: الذي في السماء، وكذلك في تفسير السعدي: (الزبور) الكتاب المزبور والمراد: الكتب المنزلة كالتوراة ونحوها، (من بعد الذكر)، أي كتبناه في الكتب المنزلة بعدما كتبنا في الكتاب السابق الذي هو اللوح المحفوظ. – سبحان الله! قالها صاحبي مستغربا. – بالفعل (كلما ازددت علما، ازددت علما بجهلي). كنت وصاحبي في طريقنا لاستقبال ضيف من أندونيسيا، أستاذ في كلية العقيدة في جامعة شريف هداية الله الإسلامية في جاكرتا. – وهل هذه سنة من سنن الله -عز وجل-؟ – نعم، وفي معنى (الأرض) ورد قولان: (الجنة)، أو (أرض العدو) في الدنيا، والثاني أقرب، لشواهده كما في قوله -عز وجل-: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} (الأحزاب:27)، وفي تفسير ابن كثير عن ابن عباس: «أخبر الله -تعالى- في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض أن يورث أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – الأرض ويدخلهم الجنة، وهم الصالحون»، وورد أيضا: «يقول الله -تعالى- مخبرا عما حتمه وقضاه (سنة الله) لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والآخرة ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة كقوله -تعالى-: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف:128). وصلنا مواقف المركبات، مع هبوط الطائرة، قررنا الجلوس في أحد المقاهي ريثما ينهي صاحبنا إجراءات السفر، بعد أن تواصلنا معه على الهاتف. – وهناك آيات كثيرة تدل على هذا المعنى، أن الله يمكّن للمؤمنين والمتقين في الأرض، بعد أن يزيل الظالمين والطغاة، وإن استغرق الأمر وقتا، ولكنها سنة الله، ومن ذلك قوله -تعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55). {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} (إبراهيم:13-14). {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (الأعراف:128-129). وقد علم من قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} أن من يشاء الله أن يورثهم الأرض هم المتقون إذا كان في الناس متقون وغيرهم، وأن تمليك الأرض لعارض ما وجاء بفعل الرجاء (عسى) دون الجزم تأدبا مع الله -تعالى-، وإقصاء للاتكال على أعمالهم ليزدادوا من التقوى والتعرض إلى رضا الله -تعالى- ونصره، فقوله: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} ناظر إلى قوله: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ} (الأعراف:128)، وقوله: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} ناظر إلى قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف:128). والمراد بالاستخلاف: الاستخلاف عن الله في ملك الأرض، أي جعلهم أحرارا غالبين ومؤسسين ملكا في الأرض المقدسة. ومعنى {فينظر كيف تعملون} التحذير من أن يعملوا ما لا يرضي الله -تعالى-، والتحريض على الاستكثار من الطاعة ليستحقوا وصف المتقين، تذكيرا لهم بأنه عليم بما يعملون. كنا نراقب بوابة خروج المسافرين بانتظار صاحبنا، بعث رسالة بأنه لم ينه إجراءات السفر بعد؛ حيث أشار إليه موظف الجوازات للتوجه إلى غرفة الضابط المسؤول، للتأكد من بصمات الأصابع لوجود تشابه في الأسماء، تحدثنا مع الضابط عبر الهاتف، طمأننا أنه مجرد إجراء احترازي، وأنه انتهى من المطلوب، وتوجه لأخذ حقائبه. تابعنا حديثنا. دعني أقرأ لك ما ذكره الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (المائدة:20-21). و{الأرض المقدسة} هي فلسطين؛ وإنما كتب الله أرض فلسطين لبني إسرائيل في عهد موسى؛ لأنهم هم عباد الله الصالحون؛ والله -سبحانه تعالى- يقول: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون} (الأنبياء:105)، وقال موسي -عليه السلام- لقومه: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (الأعراف:128)، ثم قال: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}، إذا المتقون هم الوارثون للأرض، لكنَّ بني إسرائيل اليوم لا يستحقون هذه الأرض المقدسة؛ لأنهم ليسوا من عباد الله الصالحين؛ أما في وقت موسى فكانوا أولى بها من أهلها، وكانت مكتوبة لهم، وكانوا أحق بها، لكن لما جاء الإسلام الذي بُعث به النبي – صلى الله عليه وسلم – صار أحق الناس بهذه الأرض المسلمون، لا العرب، ففلسطين ليست العرب بوصفهم عربا هم أهلها، بل إن أهلها المسلمون بوصفهم مسلمين، لا غيرو وبوصفهم عبادا لله -عز وجل- صالحين.