– لماذا ذكر الله اللعب قبل اللهو في آيات، وذكر اللهو قبل اللعب في آيات أخرى؟ – ابتداء ينبغي أن نؤمن بأن القرآن كلام الله، وأنه أكمل كلام باللغة العربية؛ لأن الله تكلم به، كل حرف فيه أتى في مكانه، بل كل نقطة وكل حركة وسكون، هو الكمال في اللغة العربية، وبالرجوع لسؤالك فقد جاءت كلمة (اللهو) قبل (اللعب) في آية واحدة من كتاب الله وهي: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت:64)، وجاءت كلمة (اللعب) قبل (اللهو) في ثلاث آيات من القرآن هي: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الأنعام:32). {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} (محمد:36). {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد:20). كان السائل أحد المصلين، مدرس إسلاميات للمرحلة الثانوية، والمجيب شيخنا إمام المسجد، خريج الأزهر، حافظ للقراءات الكبرى والصغرى ومؤهل لإجازة الحفاظ ومنحهم السند وفق قراءاتهم. كنا في مجلس المسجد، بين العشاءين. – وما الفرق بين اللهو واللعب؟ – (اللعب) شيء للترويج، و(اللهو) وليد الرغبة والشهوة، فاللعب قد يكون مباحا، ولا يكون من ا لضرورات لا في الحال ولا في المآل، فإذا شغله (اللعب) عن الواجبات، صار (لهوا)، وقدم اللعب على اللهو في ثلاث آيات؛ لأنه يكون في مقتبل العمر وللصبيان؛ فهو يحصل قبل اللهو، وأخر (اللهو)؛ لأنه يأتي بعد مرحلة الصبا، في الشباب وما بعده. – سبحان الله! بيان جميل، لكتاب الله. تابع شيخنا حديثه: – والأهم من ذلك أن الله حذر من أن تدخل الدنيا قلب المؤمن سواء باللعب أم باللهو، بل وحذر من الدنيا على إطلاقها وبين أنها (لا شيء)، مقابل الآخرة، ولو رجعنا إلى اللغة لنعرف معنى (الدنيا): (دنا) فعل ماض بمعنى قرب، وللمؤنث (دنت). و(دنؤ) فهو (دنيئ) بمعنى (حقير)، ويقال للرجل إذا طلب شيئا خسيسا (دنيئ). الدنيا قريبة الأجل، أي قصيرة وتنتهي بسرعة، أو أنها (دنيئة)، ووصفها النبي – صلى الله عليه وسلم – بأنها متاع، والمتاع شيء مؤقت، ففي صحيح مسلم: عن عبدالله بن عمرو – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة». والذم ليس للدنيا على الإطلاق، وإنما لمن استحب الحياة الدنيا، ولمن اغتر بالحياة الدنيا، يقول -تعالى-: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (107) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (النحل). وهذا الحب للدنيا يجر العبد إلى الرضا بها والاطمئنان إليها، كما قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} (يونس:7). هؤلاء غرتهم الحياة الدنيا، بمعنى خدعوا بها؛ فأصبحت غاية لهم، وأعلى مطالبهم، وباعوا آخرتهم لأجل الدنيا، كما قال -تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} (البقرة:86). وفي كتاب الله، جاء ذكر (الدنيا) أكثر من مئة مرة، وليس في هذه المئة مدح لها ولا مرة واحدة، وإنما تحذير منها، وإظهار حقيقتها، ويمدح العبد الصالح إذا كانت دنياه مطية لآخرته كما في حق الأنبياء، مثل قوله -تعالى-: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (إبراهيم). والنبي -صلى الله عليه وسلم – وضع الدنيا في مكانها الصحيح، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها» صحيح الألباني. قاطع الحديث (أبو سليمان). ولكن الله حبب إلينا أمورا من الدنيا لتستقيم الحياة، كما في الحديث: «حبب إلي من الدنيا النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة» صحيح النسائي. – نعم أحسنت يا أبا سليمان، القصد ألا يغتر العبد بها، وتلهيه عن آخرته، هذا هو المحذور، كما في الحديث: «من كانت نيته الآخرة، جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة، ومن كانت نيته الدنيا، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له» صحيح الجامع. ينبغي على العبد أن يضع الدنيا في مكانها الذي يليق بها، ولا يفرح بإقبالها ولا يحزن لإدبارها، ولنتدبر قول الله -تعالى-: {اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} والاستحباب أشد من الحب، طلبوا حبها وسعوا إليه وبذلوا الجهد لأجله، وفي الآية الأخرى وصفهم الله -تعالى-: {اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} دفعوا مصيرهم الأبدي ثمنا لحياتهم الزائلة! {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ}، ولخص النبي -صلى الله عليه وسلم – حال الدنيا بكلمات قليلة؛ فقد أوتي جوامع الكلم، عن أبي هريرة وابن مسعود -رضي الله عنهما- عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «الدنيا معلونة معلون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالما أو متعلما» صحيح الجامع.