بدأ ضيفنا حديثه في اجتماع الثلاثاء، بعد صلاة العشاء. – عن هشام عن الحسن البصري قال: «ليس من ولد آدم إلا وقد خلق معه الحسد؛ فمن لم يجاوز ذلك بقول ولا بفعل لم يتبعه شيء». استغرب كثير من الحضور هذه المقولة التي تجعل الحسد طبيعة بشرية! تابع حديثه: – نعم أعلم أن كثيرا منا يعد (الحسد) خطيئة، نعم هو كذلك إذا تلكم العبد أو فعل أما مجرد الشعور بألا تحب أن يرتفع عليك أحد، وألا ينال غيرك أكثر منك، فهذا ينسجم مع الفطرة، فعلى العبد أن يروض هذا الشعور، كما يروض شهواته الأخرى، ويجعله تحت سيطرته في بداياته، أما إذا تركه ينمو، ويكبر، فربما غلب الحسد الدين، وهذا هو المنهي عنه، والأمثلة على ذلك كثيرة أولها: حسد إبليس لآدم، وحسد قابيل لأخيه، وحسد إخوة يوسف له. استأذن منظم الاجتماع محدثنا: – يمكن لمن لديه سؤال أو تعقيب أن يسأل في أثناء الحديث، فهذا لقاء وحوار، وليس محاضرة واستماع، تابع محدثنا كلامه. – والحسد ركن من أركان الكفر، وأركانه: الكبر والحسد والغضب والشهوة، فهذا أمية بن أبي الصلت يقول: لا أؤمن برسول ليس من ثقيف، وأبو جهل يقول: والله ما كذب محمد قط! ولكن إذا كانت السدانة والحجابة في بني هاشم، ثم النبوة، فما بقي لنا؟ فالكبر يمنع الانقياد، والحسد يمنع قبول النصيحة، والغضب يمنع العدل، والشهوة تمنع العبادة. ومنشأ هذه الأربعة، جهل ذلك الحاسد بربه وجهله بنفسه. وكلكم يعرف حديث النبي – رضي الله عنه – الذي يرويه أبو هريرة -رضي الله عنه -: «إياكم والحسد! فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو قال العشب»، وهذا الحديث في سنن أبي داوود وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة. استغربت أن هذا الحديث ضعيف؛ لأني أذكر أني حفظته منذ المرحلة الثانوية، وما مر علي درس أو خطبة جمعة إلا وسمعته. تابع الشيخ: – والحديث الصحيح في ذلك، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال رسول الله – رضي الله عنه -: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا…». سأل أحدهم: – هل يمكن أن تذكر لنا مصدر هذه المقولة عن (أركان الكفر الأربعة)؟ ابتسم محدثنا: – كنت سأفعل وأحسنت بهذا السؤال. يقول ابن القيم في (الفوائد): واذا تأملت كفر الأمم رأيته ناشئا منها، وعليها يقع العذاب، وتكون خفته وشدته بحسب خفتها وشدتها؛ فمن فتحها على نفسه فتح عليه أبواب الشرور كلها عاجلا وآجلا، ومن أغلقها على نفسه أغلق عنه أبواب الشرور؛ فإنها تمنع الانقياد والإخلاص والتوبة والإنابة وقبول الحق ونصيحة المسلمين والتواضع لله ولخلقه. ومنشأ هذه الأربعة من جهله بربه وجهله بنفسه؛ فإنه لو عرف ربه بصفات الكمال ونعوت الجلال، وعرف نفسه بالنقائص والآفات، لم يتكبر ولم يغضب لها ولم يحسد أحدا على ما أتاه الله؛ فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله؛ فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله، ويحب زوالها عنه ويكره الله ذلك. فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته؛ ولذلك كان إبليس عدوه حقيقة؛ لأن ذنبه كان عن كبر وحسد. فقلع هاتين الصفتين بمعرفة الله وتوحيده والرضا به، وعنه والإنابة إليه، وقلع الغضب بمعرفة النفس، وأنها لا تستحق أن يغضب لها وينتقم لها، فإن ذلك إيثار لها بالغضب والرضا على خالقها وفاطرها، وأعظم ما تدفع به هذه الآفة أن يعودها أن تغضب له -سبحانه- وترضى له؛ فكلما دخلها شيء من الغضب والرضا له خرج منها مقابله من الغضب والرضا لها، وكذا بالعكس. وفي زاد المعاد يقول ابن القيم وفي سورة الفلق: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}. المقصود أن العائن حاسد خاص، وهو أضر من الحاسد؛ ولهذا -والله أعلم- إنما جاء في السورة ذكر الحاسد دون العائن؛ لأنه أعم؛ فكل عائن حاسد ولا بد، وليس كل حاسد عائنا، فإذا استعاذ من شر الحسد دخل فيه العين، وهذا من شمول القرآن الكريم وإعجازه وبلاغته. فالحاسد عدو النعم وهذا الشر هو من نفس الحاسد وطبعها، ليس هو شيئا اكتسبه من غيرها بل هو من خبثها وشرها، بخلاف السحر فإنه إنما يكون باكتساب أمور أخرى واستعانة بالأرواح الشيطانية؛ فلهذا -والله أعلم- قرن في السورة بين شر الحاسد وشر الساحر؛ لأن الاستعاذة من شر هذين تعم كل شر يأتي من شياطين الإنس والجن، فالحسد من شياطين الإنس والجن، والسحر من النوعين، وبقي قسم ينفرد به شياطين الجن وهو الوسوسة في القلب، فذكره في السورة الأخرى كما سيأتي الكلام عليها إن شاء الله -تعالى-؛ فالحاسد والساحر يؤذيان المحسود والمسحور بلا عمل منه، بل هو أذى من أمر خارج عنه، ففرق بينهما في الذكر في سورة الفلق. وكثيرا ما يجتمع في القرآن الحسد والسحر للمناسبة. ولهذا اليهود أسحر الناس وأحسدهم؛ فإنهم لشدة خبثهم فيهم من السحر والحسد ما ليس في غيرهم وقد وصفهم الله -تعالى- في كتابه بهذا وهذا فقال: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (البقرة:102).