«إن القلوب لا بد لها من تعلق بمحبوب؛ فمن لم يكن الله محبوبه ومعبوده، تعلق قلبه بغيره»، إغاثة اللهفان.

يسر الله لنا العمرة، رجعنا إلى المدينة بعد تجربة رائعة في قطار الحرمين.

– «حب الله» قضية يدعيها كل الخلق، ويبنون عليها أن الله يحبهم!

يدعيها اليهود والنصارى والمبتدعة وحتى أصحاب الأهواء والشهوات، وينسون أن من ادعى شيئا يجب أن يقيم الحجة على ادعائه!

– إنها كلمة عظيمة، وعمل قلبي كبير أن يحقق العبد (حب الله)، ولا شك أن لهذا العمل أركانه ودلالاته وثمراته.

– نعم، هو كما قلت، ولنبدأ بقوله الله -تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} (البقرة:165). وقوله -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}. وقوله -سبحانه-: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران:31). في هذه الآيات أثبت الله -عز وجل- حب المؤمنين له -سبحانه وتعالى- وبيّن مقياس هذا الحب وبرهانه، فلنعمق في هذه القضية الجميلة العظيمة من أعمال القلوب.

     أول أسباب حب العبد لله، أن يعرف الله معرفة صحيحة، ولا سبيل لمعرفة الله، إلا كتاب الله وسنة الرسول – صلى الله عليه وسلم -، كما بينها هو – صلى الله عليه وسلم – وكما فهمها من كانوا معه من الصحابة – رضي الله عنه -، معرفة أسماء الله الحسنى، وصفاته العُلا، تورث في القلب المحبة الصحيحة لله، فتدفع العبد إلى العمل بما أمر به المحبوب، والابتعاد عما نهى عنه المحبوب، لأن محبة الله، تمتزج بتعظيمه والخوف منه، والحياء من التقصير في حقه، ورجاء رحمته وعفوه، والأمل نيل رضاه، هذه كلها مترابطة لا تنفصل عن بعضها بعضاً؛ ولذلك من سعى إلى حب الله، دون تعظيم وخوف وقع في بدع المتصوفة، الذين شبهوا حب الله بحب المخلوق من حب وغشق ووله، دون تعظيم أو خوف أو خشية!

     فإذا عرف العبد ربه بأسمائه وصفاته، عظم أوامره، فأتى الواجبات وانتهى عن المحرمات، وزاد بالنوافل  والمستحبات، كما في الحديث القدسي، عن أبي هريرة: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله -تعالـى- يقول: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إليّ مما افترتضه عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت بشيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد منه» البخاري. كنا في صالة الانتظار نتناول مشروبات ساخنة بانتظار موعد إقلاع طائرتنا.

– وهذا الحديث يستشهد به أهل البدع؛ لأنهم لم يفهموه كما فهمه الصحابة الذين سمعوه عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وباختصار، أن غاية محبة العبد لله -عز وجل- ألا يرى إلا ما يرضي الله، ولا يسمع إلا في طاعة الله، ولا يبطش إلا في أمر الله، ولا يمشي إلا في رضى الله -عز وجل-، فمن كان كذلك فقد بلغ المراد -بإذن الله-، وحديث أن البشر يقع في الخطأ والمعصية؛ فإن المحب لله، إذا عصا تاب، وإذا أذنب آب، وإذا قصّر استغفر، ولا يستغني أحد، عن التوبة والاستغفار أبدا!

     ولا شك أن حب المؤمنين لله -عز وجل- يتفاوت، ونؤمن أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، كان أشد الخلق حبا لله، ثم الأنبياء -عليهم الصلام والسلام-، ثم الصحابة -رضوان الله عليهم-، وحتى العبد، يكون في درجات متفاوتة من حبه لرب العالمين، وإن كان الأصل موجودا في القلب إلا أن درجات المحبة تزداد بالطاعات وتنقص بالمعاصي. {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران:31). وليس عند القلوب السليمة أجمل ولا أطيب ولا أنعم من محبة الله -عز وجل، كما في الحديث:

     عن أنس – رضي الله عنه – قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار»، متفق عليه. وفي الواقع هذه الثلاث ترجع إلى واحدة (حب الله -عز وجل).

     ودلائل حب العبد لله كثيرة، منها ما ورد في هذا الحديث، ومنها الراحة والتلذذ بالطاعات، ولاسيما الفرائض، كالصلاة والصيام «وجعلت قرة عيني في الصلاة»، ومنها التلذذ بسماع كلام الله والسعادة بطاعة الله والفرحة بإنجاز أوامر الله، كالفرحة عند الفطر بعد الصيام وإتمام الحج، وختم القرآن، وقضاء حوائج المسلمين، وغيرها من الطاعات، يأتيها برغبة، ويفرح أن أداها، {وإلى ربك فارغب} الشرح، ولا يستغني العبد عن دعاء الله أن يرزقه محبته؛ فإن المطالب العظمى لا تنال إلا بتوفيق الله، وهذه نعمة عظيمة من الله يتفضل بها على من يستحقها بحق.

     فقد ورد في الحديث عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال: «احتبس عنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعا فثوب بالصلاة، فصلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتجوز في صلاته، فلما سلم دعا بصوته فقال لنا: على مصافكم كما أنتم ثم انفتل إلينا فقال: أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة: أني قمت من الليل فتوضأت فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي فاستثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد قلت: رب لبيك، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب، قالها ثلاثا قال: فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد، قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات، قال: ما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في المكروهات، قال: ثم فيم؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة بالليل والناس نيام. قال: سل. قل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك، وحبّ عملٍ يقرِّبُ إلى حُبِّك، قال رسولُ اللّهِ – صلى الله عليه وسلم -: إنّها حقٌّ فادرُسوها ثمّ تعلّموها». قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؛ فقال هذا حديث حسن صحيح ( تحقيق الألباني: صحيح مختصر العلو).