تمكنت من إقناع صاحبي بأداء العمرة انطلاقا من المدنية، بعد أن يسر أولو الأمر على المسلمين بتشغيل قطار الحرمين، كانت تجربتنا الأولى في استخدام هذه الخدمة الجميلة للانتقال من المدينة إلى مكة والعودة في اليوم نفسه دون الشعور بالإرهاق وتعب السفر، أخذنا مقاعدنا المريحة، وأنا شخصيا من عشاق السفر بالقطار أينما كنت، أفضله على وسائل السفرة الأخرى كافة.

– (التقوى)، غاية كل مسلم صادق، متى دخلت القلب، انتقل العبد من ماديات الدنيا، إلى الملذات الأخروية، وارتقى من حطام الدنيا، إلى نعيم الروح، وراحتها.

– وما السبيل لنيل التقوى؟ وهل من نالها يفقدها؟ وكيف أعلم أني تحصلتها، وأحافظ عليها؟

– التقوى مثل أعمال القلوب الأخرى، تزيد وتنقص، وتأتي وتذهب، وتظهر وتختفي، وتحتاج إلى مجاهدة لاستحضارها والمحافظة عليها دائما، وسبل الوصول إليها، كما في أعمال القلوب الكبرى، الصدق مع الله والعلم الصحيح من الكتاب والسنة، والعلم وفق هذا العلم، ودعاء الله -عز وجل.

– لنناقش الأمر نقطة بنقطة، ولا تكثر علي، وعُدني أحد طلابك الجدد.

هكذا علق صاحبي، الذي يكبرني عمرا، فما كان مني إلا أن نظرت إليه مبتسما، مستنكرا.

– أنت أستاذنا الكبير يا (أبا عبدالله).

– التقوى، شرعا عرفها كثير من علمائنا، وأحب دائما أن أستشهد بتعريف طلق بين حبيب: «أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله».

– هذا التعريف، جمع العلم والعمل والقصد، كلام جميل.

     نعم، والعبادات سبيل لنيل التقوى، ولكن إن لم يحافظ العبد عليها، فإنها تمضي مع انتهاء العبادة، وأوضح مثال على ذلك الصيام، كما قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183)؛ فالعبد ينبغي أن يستغل هذه العبادات لاستحضار التقوى، ثم يبذل الجهد للمحافظة على التقوى وزيادتها، فقد ذكر الله التقوى وما يتعلق بها في أكثر من مائتين وخمسين آية في كتابه -عز وجل-، أحيانا يأمر -تعالى- الناس جميعا، وأحيانا المؤمنين خاصة، وأحيانا النبي – صلى الله عليه وسلم -، وكل بما يناسب مقامه.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (الحج:1).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران:102).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119).

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (الأحزاب:1).

     وفي أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – شيء كثير لعل أشهرها حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع أحدكم على بيع أخيه، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا، وأشار بيده إلى صدره، ثلاث مرات، حسب امرئ مسلم من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله وعرضه». مسند الإمام أحمد، تحقيق أحمد شاكر.

تركنا مقاعدنا نتجول قليلا في ممر القطار إلى أن وصلنا دون سابق قصد إلى زاوية المرطبات، أخذنا حاجتنا، ورجعنا.

– وثمرات التقوى لا يمكن حصرها، يكفي العبد منها أنها شأن عظيم أمر الله به، ويريد من عباده تحقيقه، ولكن دعنا نذكر شيئا مما يتحصله العبد بالتقوى.

– محبة الله، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:4-7).

– معية الله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل:128).

– الحفظ من الشيطان: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف:201).

– انتفاء الخوف والحزن: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأعراف:35)، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران:133).

– النجاة من النار: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (مريم:72).

– انفراج الكرب في الدنيا: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق:2-3).

وغيرها كثير، لا مجال لحصرها.

     وفي البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: « والله إني لأعلمكم بالله وأتقاكم له قلبا» البخاري.

ومكانة العبد عند الله بما في قلبه من تقوى.

{إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات:13).

     ولا شك أن من تمكنت التقوى في قلبه، انعكس ذلك على جوارحه وأخلاقه، فتراه لا يقصر في حق الله ولا حقوق البشر، فيأتي العبادات التي أمر الله بها، ما استطاع، ويصدق مع الناس ويفي بالعهد ويكف الأذى ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وفق شريعة الله -عز وجل- ولا تأخذه في الله لومة لائم، وينقص من ذلك كلما نقصت التقوى.

– نعم، التقوى شأنها عظيم، وقليل من يدركها ويحافظ عليها، مع أن سبيل نيلها واضح بين لمن أرادها، ويسير لمن صدق الله.

– أحسنت، ولعلنا نذكر أنفسنا بما يعين على تحصيل التقوى، ومن ذلك، مراقبة الله، والإكثار من ذكره، والرجوع عن الخطأ والاستغفار من الذنب حال وقوعه، والتوبة منه، وتعلم أحكام الشرع واتباع هدي النبي – صلى الله عليه وسلم -، ومصاحبة الأخيار الذين يذكرونك الله واليوم الآخر بمجرد رؤيتهم، ودعاء الله -عز وجل- دائما باتباع الحق، والثبات عليه.