كلمة عظيمة، خلقت لأجلها السماوات والأرض: (لا إله إلا الله)، بعث لأجلها الرسل وأنزلت الكتب، وجعل جزاء من آمن بها مخلصا الجنة،  وجزاء من أنكرها، النار.

      سورة النحل، سورة النعم، ذكر الله فيها كثيرا من نعمه على خلقه، ولكن يغفل الناس أن أعظم نعمة ذكرت في هذه السورة هي نعمة (التوحيد)، في آية واضحة بينة ثابتة، إعلان إلهي، من لم يره فهو (الأعمى)، يقول -عز وجل-: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} (النحل:22). {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (النحل:51).

      في تفسير هاتين الآيتين: قد ثبت بما تقدم من الآيات إبطال إلهية غير الله، فثبت أن لكم إلها واحدا لا شريك له، ولكون ما مضى كافيا في إبطال إنكارهم الوحدانية، خلت الجملة من المؤكد تنزيلا لحال المشركين بعد ما سمعوا من الأدلة منزلة، من لا يظن به أنه يتردد في ذلك بخلاف قوله -تعالى-: {إن إلهكم لواحد} في سورة الصافات؛ لأن ذلك ابتداء كلام لم يتقدمه دليل، كما أن قوله -تعالى-: {وإلهكم إله واحد} في سورة البقرة (163) خطاب لأهل الكتاب.

      {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ}، أي يتفرع على هذه القضية القاطعة أن قلوبكم منكرة وأنتم مستكبرون، وأن ذلك ناشئ عن عدم إيمانكم بالآخرة، والتعبير عن المشركين بـ{الذين لا يؤمنون بالآخرة}؛ لأنهم قد عرفوا واشتهروا بها اشتهار لمز وتنقيص عند المؤمنين، وعبر بالجملة الاسمية (قلوبهم منكرة) للدلالة على أن الإنكار ثابت لهم دائم لاستمرارهم على الإنكار بعد ما تبين من الأدلة، وذلك يفيد أن الإنكار صار لهم سجية وتمكن من نفوسهم؛ لأنهم ضروا به؛ من حيث إنهم لا يؤمنون بالآخرة فاعتادوا عدم التبصر في العواقب.

      وكذلك جملة (وهم مستكبرون) بنيت على الاسمية لدلالة على تمكن الاستكبار منهم. و(الجرم) بالتحريك-: أصله البد، وكثر في الاستعمال حتى صار بمعنى حقا، والتقدير: لا جرم في أن الله يعلم، أي لابد من أنه يعلم، أي لا شك في ذلك.

     وجملة (أن الله يعلم) كناية عن الوعيد بالمؤاخذة بما يخفون وما يظهرون من الإنكار والاستكبار، وغيرهما بالمؤاخذة بما يخفون وما يظهرون من الإنكار والاستكبار، وغيرهما مؤاخذة عقاب وانتقام؛ فلذلك عقب بجملة إنه لا يحب المستكبرين.

     وفي قوله -عز وجل-: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (النحل:51)، قال الله لعباده: لا تتخذوا لي شريكا أيها الناس، ولا تعبدوا معبودين، فإنكم إذا عبدتم معي غيري جعلتم لي شريكا، ولا شريك لي، إنما هو إله واحد ومعبود واحد، وأنا ذلك {فإياي فارهبون} يقول: فخافوا عقابي بمعصيتكم إياي إن عصيتموني وعبدتم غيري، أو أشركتم في عبادتكم لي شريكا.

     لما أشبع القول في إبطال تعدد الآلهة الشائع في جميع قبائل العرب، نقل الكلام إلى إبطال نوع آخر من الشرك متبع عند قبائل من العرب وهو الإشراك بإلهية أصلين للخير والشر، تقلدته بعض القبائل العرب المجاورة، وبعض العقائد تعتقد وجود إلهين، إله للخير وهو النور، وإله للشر وهو الظلمة. قوله -تعالى-: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين}، عطف قصة على قصة وهو مرتبط بجملة: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل:36)

      وصيغة التثنية من قوله: إلهين أكدت بلفظ اثنين للدلالة على أن الاثنينية مقصودة بالنهي إبطالا لشرك مخصوص من إشراك المشركين، وألا اكتفاء بالنهي عن تعدد الإله بل المقصود النهي عن التعدد الخاص؛ وإذ نهوا عن اتخاذ إلهين فقد دل بدلالة الاقتضاء على إبطال اتخاذ آلهة كثيرة. والضمير من قوله -تعالى-: إنما هو إله واحد عائد إلى اسم الجلالة في قوله: (وقال الله)، أي قال الله إنما الله إله واحد، والقصر في قوله: {إنما هو إله واحد}، قصر موصوف، على صفة، أي الله مختص بصفة توحد الإلهية، أي نهي الله عن اتخاذ إلهين؛ فقد دل بدلالة الاقتضاء على إبطال اتخاذ آلهة كثيرة. والضمير من قوله -تعالى-: {إنما هو إله واحد} عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {وقال الله}، أي قال الله إنما الله إله واحد، والقصر في قوله: {إنما هو إله واحد} قصر موصوف على صفة، أي الله مختص بصفة توحد الإلهية، أي نهى الله عن اتخاذ إلهين؛ لأن الله واحد، فاتخاذ إلهين اثنين قلب لحقيقة الإلهية.

وتفرع على ذلك قوله -تعالى-: {فإياي فارهبون} بصيغة القصر، أي قصر الرهبة التامة منه عليه فلا اعتداد بقدرة غيره على ضر أحد.

      والاقتصار على الأمر بالرهبة وقصرها على كونها من الله يفهم منه الأمر بقصر الرغبة عليه، ووقع في ضمير (فإياي) التفات من الغيبة إلى التكلم لمناسبة انتقال الكلام من تقرير دليل وحدانية الله على وجه كلي إلى تعيين هذا الواحد أنه الله منزل القرآن تحقيقا لتقرير العقيدة الأصلية.

      وفي هذا الالتفات اهتمام بالرهبة لما في الالتفات من فهم المخاطبين، واقتران فعل (بالفاء) يفيد مفاد التأكيد فيكون التقدير، فإياي ارهبون فارهبون، أي أمرتكم بأن تقصروا رهبتكم علي فارهبون امتثالا للأمر.