من جهل أصحاب الشبهات، أن يتعاملوا مع الله -عز وجل- كما يتعاملون مع أقرانهم ومنافسيهم، فمن ينكر منهم البعث «يتحدى» أن يحيي الله الموتى أمامه ليثبت عكس ذلك، ومن ينكر عذاب الله على كفره، يتحدى الله أن ينزل عليه العذاب في الدنيا، وهذه الحجج قديمة حديثة، لا زال أهل الغي يرددونها، وسمعتها من أحدهم وهو يحمل شهادة الدكتوراة في الفلسفة واسمه (محمد)!.

– كلما رأيت أو سمعت أمثال هؤلاء دعوت الله صادقا «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، والمصيبة أنهم لا يقرؤون القرآن، ولا يقربون الصلاة، ولا يفقهون شيئا من دين الله، ويقفون أمام تلاميذ الجامعة يعلمونهم ويختبرونهم.

كنت وصاحبي في نقاش جانبي قبل بدء اجتماع لجنة النشاط العلمي للقسم، وصلنا قبل موعد الاجتماع.

– لو كان عند هؤلاء شيء من الفطرة السليمة لأبقوا لأنفسهم (خط رجعة)، ولم يتحدوا الله فيما أخبر عنه من المغيبات.

– إنه العناد والمكابرة، الذي إذا تمكن من المخلوق أعماه، وقاده إلى هلاكه، ولا يتوقف حتى يرى الحقيقة المؤلمة، حينها يتحسر ويندم (ولات حين مناص).. اسمع قول الله -تعالى-: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الأنفال: 31-33). يقول -تعالى ذكره-: ويستعجلونك يا محمد مشركو قومك بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية، فيقولون: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال:32)، وهم يعلمون ما حل بمن خلا قبلهم من الأمم التي عصت ربها، وكذبت رسلها من عقوبات الله وعظيم بلائه، فمن بين أمة مُسخت قردة وأخرى خنازير، ومن بين أمة أهلكت بالرجفة، وأخرى بالخسف، وذلك هو المثلات التي قال الله -جل ثناؤه-: {وقد خلت من قبلهم المثلات} (الرعد:6)، والمثلات: العقوبات المنكلات.

قل لهم: إن لهذا أجلا، حين سألوا الله أن ينزل عليهم، فقال: بل نؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار، فقالوا: لا نريد أن نؤخر إلى يوم القيامة {ربنا عجل لنا قطنا} عذابنا {قبل يوم الحساب} (ص:16)، وقرأ: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنكبوت).

فالآية نزلت ذامة لخلق ذميم هو في بعض الناس، يدعون في الخير فيريدون تعجيل الإجابة ثم يحملهم أحيانا سوء الخلق على الدعاء في الشر، فلو عجل لهم لهلكوا. الثانية- واختلف في إجابة هذا الدعاء، وقوله: {ولولا أجل مسمى} في نزول العذاب، قال ابن عباس: يعني هو ما وعدتك ألا أعذب قومك وأؤخرهم إلى يوم القيامة.

معنى كلامهم: إن هذا القرآن ليس حقا من عندك فإن كان حقا فأصبنا بالعذاب، وهذا يقتضي أنهم قد جزموا بأنه ليس بحق، وقد كانوا لجهلهم وضلالهم يحسبون أن الله يتصدى لمخاطرتهم، فإذا سألوه أن يمطر عليهم حجارة -إن كان القرآن حقا منه- أمطر عليهم الحجارة وأرادوا أن يظهروا لقومهم صحة جزمهم بعدم حقية القرآن؛ فأعلنوا الدعاء على أنفسهم بأن يصيبهم عذاب عاجل إن كان القرآن حقا من الله ليستدلوا بعدم نزول العذاب على أن القرآن ليس من عند الله، وذلك في معنى القسم كما علمت. فهم غير جازمين بأن القرآن حق ومنزل من الله، بل هم موقنون بأنه غير حق واليقين بأنه غير حق أخص من عدم اليقين بأنه حق. ومن عندك حال من (الحق) أي منزلا من عندك فهم يطعنون في كونه حقا وفي كونه منزلا من عند الله. وقوله: (من السماء) وصف لحجارة أي حجارة مخلوقة لعذاب من تصيبه لأن الشأن أن مطر السماء لا يكون بحجارة كقوله -تعالى-: {فصب عليهم ربك سوط عذاب} (الفجر:13) (والصب قريب من الأمطار).

وذكروا عذابا خاصا وهو مطر الحجارة ثم عمموا فقالوا: أو ائتنا بعذاب آليم، ويريدون بذلك كله عذاب الدنيا؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة. ووصفوا العذاب بالأليم زيادة في تحقيق يقينهم بأن المحلوف عليه بهذا الدعاء ليس منزلا من عند الله فلذلك عرضوا أنفسهم لخطر عظيم على تقدير أن يكون القرآن حقا ومنزلا من عند الله.

وكان العذاب قد تأخر عنهم زمنا اقتضته حكمة الله، بين الله لرسوله – صلى الله عليه وسلم – في هذه الآية سبب تأخر العذاب عنهم حين قالوا ما قالوا، وأيقظ النفوس إلى حلوله بهم وهم لا يشعرون.

قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} كناية عن استحقاقهم، وإعلام بكرامة رسوله -صلى الله عليه وسلم – عنده؛ لأنه جعل وجوده بين ظهراني المشركين مع استحقاقهم العقاب سببا في تأخير العذاب عنهم، وهذه مكرمة أكرم الله بها نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم – فجعل وجوده في مكان مانعا من نزول العذاب على أهله، فهذه الآية إخبار عما قدره الله فيما مضى.

وأما قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فقد أشكل على المفسرين نظمها، فإنه لا يستغفر الله إلا المسلمون فالمعنى استغفار من حل بينهم من المسلمين، بناء على أن المشركين لا يستغفرون الله من الشرك، والذي يظهر أنها جملة معترضة انتهزت بها فرصة التهديد بتعقيبه بترغيب على عادة القرآن في تعقيب الوعيد بالوعد، فبعد أن هدد المشركين بالعذاب ذكرهم بالتوبة من الشرك بطلب المغفرة من ربهم بأن يؤمنوا بأنه واحد، ويصدقوا رسوله، فهو وعد بأن التوبة من الشرك تدفع عنهم العذاب، وتكون لهم أمنا وذلك هو المراد بالاستغفار؛ إذ من البين أن ليس المراد من يستغفرون أنهم يقولون: غفران الله ونحوه؛ إذ لا عبرة بالاستفغار بالقول والعمل يخالفه، فيكون قوله: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون تحريضا وذلك في الاستغفار وتلقينا للتوبة زيادة في الإعذار لهم على معنى قوله: {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} (النساء:147)، وقوله: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} (الأنفال:38). وقد دلت الآية على فضيلة الاستغفار وبركته بإثبات بأن المسلمين أمنوا من العذاب الذي عذب الله به الأمم؛ لأنهم استغفروا من الشرك باتباعهم الإسلام.