أصبح الناس يتفاضلون بثرواتهم، وحساباتهم البنكية، دون اعتبار للدين والخلق والاستقامة، (قيمتك في المجتمع.. رقم في البنك)، وبعضهم يعلن ذلك ويتبجح به: (مدخولي في يوم واحد يفوق دخل الأساتذة والأطباء المتخصصين في شهر!)، وبعضهم يعمل على أن يربي ذريته على هذا المبدأ منذ الصغر.

كنت وصاحبي نتابع حوارا اجتماعيا عن (القيم) في إحدى الفضائيات.

– مشكلة من ينغمس في الدنيا أنه.. يختم على قلبه وسمعه وتصبح على بصره غشاوة، فلا يرى الحقائق ولا يسمع البراهين ولا يعقل الأدلة وإن كانت أمامه، هذا الذي يتباهى بماله، أو شهرته، ويظن أنه «نجح» في حياته، لا يرى أبعد من طرف أنفه، يسمع عن الموتى، ولا يهتم، وكأنه غير مشمول بهذه القضية «محمي» عنها، يسمع الآيات، وكأنها لاتخاطبه ولا تعنيه، اختار (السمعة) في الدنيا والشقاء في الآخرة، ولاسيما إذا تكبر وتجبر وأعرض عن دين الله، وهذا سنة الله في خلقه، تعال نقرأ آيات الله فيمن حادّ الله ورسوله. {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (المجادلة:5). عن قتادة، قوله: {إن الذين يحادون الله ورسوله} يقول: يعادون الله ورسوله.

في التفسير: إن الذين يخالفون الله في حدوده وفرائضه، فيجعلون حدودا غير حدوده، وذلك هو المحادّة لله ولرسوله. {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} غيظوا وأخزوا كما غيظ الذين من قبلهم من الأمم الذين حادوا الله ورسوله، وخزوا. والكبت: الخزي والإذلال وفعل كبتوا مستعمل في الوعيد أي سيكبتون، فعبر عنه بالمضي تنبيها على تحقيق وقوعه لصدوره عمن لا خلاف في خبره مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} (النحل:1)؛ ولأنه مؤيد بتنظيره بما وقع لأمثالهم.

ويزيد ذلك وضوحا قوله: {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وتعريف (الكافرين) تعريف الجنس ليستغرق كل الكافرين.

ووصف عذابهم بالمهين لمناسبة وعيدهم بالكبت الذي هو الذل والإهانة، وبعد خمس عشرة آية يكرر الله -عز وجل- الأمر فيقول -سبحانه-: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة).

المحادون المذكورون في هذه الآية هم المسرون للمحادة المتظاهرون بالموالاة، وهم المنافقون، ولاية التي قبلها في الكافرين و(الأذلين) أي شديدو المذلة ليتصورهم السامع في كل جماعة يرى أنهم أذلون، فيكون هذا النظم أبلغ من أن يقال: أولئك هم الأذلون.

واسم الإشارة تنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما بعد اسم الإشارة من الحكم بسبب الوصف الذي قبل اسم الإشارة وجملة (كتب الله لأغلبن) علة لجملة (أولئك في الأذلين) أي لأن الله أراد أن يكون رسوله – صلى الله عليه وسلم – غالبا لأعدائه وذلك من آثار قدرة الله التي لا يغلبها شيء، وقد كتب لجميع رسله الغلبة على أعدائهم، فغلبتهم من غلبة الله والمراد: الغلبة بالقوة؛ لأن الكلام مسوق مساق التهديد، وأما الغلبة بالحجة فأمر معلوم.

{كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} يقول: قضى الله وخط في أم الكتاب، لأغلبن أنا ورسلي من حادني وشاقني.

قال عطاء: يريد الذل في الدنيا والخزي في الآخرة {كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها مع كونهم في الأذلين، أي: كتب في اللوح المحفوظ، وقضى في سابق علمه: لأغلبن أنا ورسلي بالحجة والسيف، قال الزجّاج: معنى غلبة الرسل على نوعين: من بعث منهم بالحرب فهو غالب في الحرب، ومن بعث منهم بغير الحرب فهو غالب بالحجة.

وقال -سبحانه-: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (الحج:18). أي من أهانه بالشقاء والكفر لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه.

والمعنى: أن الله أهانهم باستحقاق العذاب فلا يجدون من يكرمهم بالنصر أو بالشفاعة. وفي سورة الدخان يقول -سبحانه-: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدخان).

مر أبو جهل برسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو جالس: فلما بعد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى. فلما سمع أبو جهل قال: من توعد يا محمد؟ قال: إياك، قال: بما توعدني؟ قال: أوعدك بالعزيز الكريم، قال أبو جهل: أليس أنا العزيز الكريم؟ والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا، إني لمن أعز هذا الوادي وأكرمه على قومه.

فأنز الله -تعالى-: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} إلى قوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}، فلما بلغ أبا جهل ما نزل فيه جمع أصحابه، فأخرج إليهم زبدا وتمرا فقال: تزقموا من هذا، فو الله ما يتوعدكم محمدا إلا بهذا، فأنز الله {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} إلى قوله: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ}. هو على معنى الاستخفاف والتوبيخ والاستهزاء والإهانة والتنقيص، أي قال له: إنك أنت الذليل المهان.

وفي الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه -، عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرؤوا، {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} (الكهف:105)» متفق عليه.

وفي حديث آخر أن الصحابي الجليل عبد الله بن معسود تسلق شجرة ليأتي بسواك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -فانكشفت ساقه، فجعلوا ينظرون إلى دقة ساقه، أو تعجبون من دقة ساقه؟ فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لهما أثقل في الميزان من أحد»