مازال الحديث مستمراً حول تدبر معاني القرآن وأهمية النظر في تفسيره ولاسيما أن كثيراً من المسلمين أصبح همه القراءة فقط دون فهم معاني القرآن وإدراك مقاصده ولنقرأ في تفسير هذه الآية من سورة الأنعام {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام:106):  ابتداؤه بالأمر باتباع ما أوحي إليه يتنزل منزلة المقدمة للأمر بالإعراض عن المشركين، وليس هو المقصد الأصلي من الغرض المسوق له الكلام، لأن اتباع الرسول – صلى الله عليه وسلم – ما أوحي إليه أمر واقع بجميع معانيه؛ فالمقصود من الأمر الدوام على اتباعه. والمعنى: أعرض عن المشركين اتباعا لما أنزل إليك من ربك. والاتباع في الأصل اقتفاء أثر الماشي، ثم استعمل في العمل بمثل عمل الغير، كما في قوله {والَّذِينَ اتَّبَعُوهم بِإحْسانٍ} (التوبة: ١٠٠). ثم استعمل في امتثال الأمر والعمل بما يأمر به المتبوع فهو الائتمار.

     وإطلاق الاتباع بمعنى الائتمار شائع في القرآن لأنه جاء بالأمر والنهي وأمر الناس باتباعه، واستعمل أيضا في معنى الملازمة على سبيل المجاز المرسل؛ لأن من يتبع أحدا يلازمه. ومنه سمي الرئي من الجن في خرافات العرب تابعة، ومنه سمي من لازم الصحابي وروى عنه تابعيا.

فيجوز أن يكون الاتباع في الآية مرادا به دوام الامتثال لما أمر به القرآن من الإعراض عن أذى المشركين وعنادهم، فالاتباع المأمور به اتباع في شيء مخصوص، وهذا مأمور به غير مرة، فالأمر بالفعل مستمر في الأمر بالدوام عليه.

     ويجوز أن يكون أمرا بملازمة الدعوة إلى الله والإعلان بها ودعاء المشركين إلى التوحيد والإيمان، وألا يعتريه في ذلك لين ولا هوادة حتى لا يكون لبذاءتهم وتكذيبهم إياه تأثير على نفسه، يوهن دعوتهم والحرص على إيمانهم، واعتقاد أن محاولة إيمانهم لا جدوى لها. فالمراد بما أوحي إليه ما أوحي من القرآن خطابا للمشركين، أو أمرا بدعوتهم للإسلام وعدم الانقطاع عن ذلك، فيكون الكلام شدا لساعد النبي – صلى الله عليه وسلم – في مقامات دعوته إلى الله، وهذا هو المناسب لقوله {ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} (الأنعام: ١٠٨} . وقد تقدم شيء من هذا آنفا عند قوله -تعالى- {إنْ أتَّبِعُ إلّا ما يُوحى إلَيَّ} (الأنعام: ٥٠).

وليس المراد من الأمر بالاتباع الأمر باتباع أوامر القرآن ونواهيه مطلقا؛ لأنه لا مناسبة له بهذا السياق، وفي الإتيان بلفظ ربك دون اسم الجلالة تأنيس للرسول – صلى الله عليه وسلم – وتلطف معه.

وجملة {لا إله إلا هو}  معترضة، والمقصود منها إدماج التذكير بالوحدانية لزيادة تقريرها وإغاظة المشركين.

     والمراد بالإعراض عن المشركين الإعراض عن مكابرتهم وأذاهم لا الإعراض عن دعوتهم، فإن الله لم يأمر رسوله – صلى الله عليه وسلم – بقطع الدعوة لأي صنف من الناس، وكل آية فيها الأمر بالإعراض عن المشركين فإنما هو إعراض عن أقوالهم وأذاهم، ومن هذه الآيات التي تدعو المشركين إلى الإسلام والإقلاع عن الشرك قوله -تعالى- في سورة النساء {فَأعْرِضْ عَنْهم وعِظْهُمْ} (النساء: ٦٣).

     وهذا تلطف مع الرسول – صلى الله عليه وسلم – وإزالة لما يلقاه من الكدر من استمرارهم على الشرك وقلة إغناء آيات القرآن ونُذُرِه في قلوبهم، فذكره الله بأن الله قادر على أن يحول قلوبهم فتقبل الإسلام بتكوين آخر، ولكن الله أراد أن يحصل الإيمان ممن يؤمن بالأسباب المعتادة في الإرشاد والاهتداء؛ ليميز الله الخبيث من الطيب وتظهر مراتب النفوس في ميادين التلقي، فأراد الله أن تختلف النفوس في الخير والشر اختلافا ناشئا عن اختلاف كيفيات الخلقة والخلق والنشأة والقبول، وعن مراتب اتصال العباد بخالقهم ورجائهم منه. فالمشركون بلغوا إلى حضيض الشرك بأسباب ووسائل متسلسلة مترتبة خلقية، وخلقية، واجتماعية، تهيأت في أزمنة وأحوال هيئتها لهم، فلما بعث الله إليهم المرشد كان إصغاؤهم إلى إرشاده متفاوتا على تفاوت صلابة عقولهم في الضلال وعراقتهم فيه، وعلى تفاوت إعداد نفوسهم للخير وجموحهم عنه، ولم يجعل الله إيمان الناس حاصلا بخوارق العادات ولا بتبديل خلق العقول، وهذا هو القانون في معنى مثل هذه الآية، فهذا معنى انتفاء مشيئة الله في هذا المقام المراد به تطمين قلب الرسول – صلى الله عليه وسلم – وتذكيره بحقائق الأحوال وليس في مثل هذا عذر لهم ولا لأمثالهم من العُصاة، ولذلك رد الله عليهم الاعتذار بمثل هذا في قوله في الآية الآتية {سَيَقُولُ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكم مِن عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا} (الأنعام: ١٤٨) الآية. وفي قوله {وقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمَنُ ما عَبَدْناهم ما لَهم بِذَلِكَ مِن عِلْمٍ إنْ هم إلّا يَخْرُصُونَ} (الزخرف: ٢٠) ؛ لأن هذه حقيقة كاشفة عن الواقع لا تصلح عذرا لمن طلب منهم ألا يكونوا في عداد الذين لم يشأ الله أن يرشدهم.