ذكرنا أن الله تكفل بتربية أنبيائه ورسله وجعلهم خيرة البشر ونستكمل الحديث عن الأدلة التي وردت في سورة الإسراء والتي تتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {ثم لا تجد لك علينا نصيرا} ينقذك مما يحل بك من العذاب، ولكن الله -تعالى- عصمك من أسباب الشر ومن البشر؛ فثبتك وهداك الصراط المستقيم، ولم تركن إليهم بوجه من الوجوه؛ فله عليك أتم نعمة وأبلغ منحة.
وركون النبي صلى الله عليه وسلم إليهم غير واقع ولا مقارب الوقوع؛ لأن الآية قد نفته بأربعة أمور، وهي: (لولا) الامتناعية، وفعل المقاربة المقتضى أنه ما كان يقع الركون، ولكن يقع الاقتراب منه، والتحقير المستفاد من «شيئا»، والتقليل المستفاد من «قليلا» أي لولا إفهامنا إياك وجه الحق، لخُشي أن تقترب من ركون ضعيف قليل، وكان ذلك لم يقع، ودخلت (قد) في حيز الامتناع؛ فأصبح تحقيقها معدوما. أي لولا أن ثبتناك لتحقق قرب ميلك القليل، ولكن ذلك لم يقع لأنا ثبتناك.
لأذقناك ضعفا في الحياة وضعفا في الممات؛ فضعف عذاب الحياة، هو تراكم المصائب والأرزاء في مدة الحياة. أي العمر بزوال ما كان يناله من بهجة وسرور بتمام دعوته وانتظام أمته، ذلك أن يتمكن منه أعداؤه، وعذاب الممات أن يموت مكمودا مستذلا بين كفار يرون أنهم قد فازوا عليه بعد أن أشرفوا على السقوط أمامه.
وقيل: معنى ذلك أنه خطر في قلبه صلى الله عليه وسلم أن يوافقهم في بعض ما أحبوا ليجرهم إلى الإسلام لشدة حرصه على إسلامهم.
وبين في موضع آخر، أنهم طلبوا منه الإتيان بغير ما أوحي إليه وأنه امتنع أشد الامتناع، وقال لهم: إنه لا يمكنه أن يأتي بشيء من تلقاء نفسه، بل يتبع ما أوحى إليه ربه، وذلك في قوله: {قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}(10-15).
بين -جل وعلا- في هذه الآية الكريمة تثبيته لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وعصمته له من الركون إلى الكفار، وأنه لو ركن إليهم لأذاقه ضعف الحياة وضعف الممات، أي مثلي عذاب الحياة في الدنيا ومثلي عذاب الممات في الآخرة؛ وبهذا جزم القرطبي في تفسيره، وقال بعضهم: المراد بضعف عذاب الممات، العذاب المضاعف في القبر، والمراد بضعف الحياة، العذاب المضاعف في الآخرة بعد حياة البعث؛ وبهذا جزم الزمخشري وغيره، والآية تشمل الجميع. وهذا الذي ذكرناه هنا من شدة الجزاء لنبيه -لو خالف- بينه في غير هذا الموضع، كقوله: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين}.الآية (44-46/69).
وهذا الذي دلت عليه هذه الآية من أنه إذا كانت الدرجة أعلى، كان الجزاء عند المخالفة أعظم -بينه في موضع آخر- كقوله: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين}الآية (30-33)، ولقد أجاد من قال:
وكبائر الرجل الصغير صغائر
وصغائر الرجل الكبير كبائر
هذه الآية الكريمة أوضحت غاية الإيضاح براءة نبينا صلى الله عليه وسلم من مقاربة الركون إلى الكفار، فضلا عن الركون نفسه؛ لأن لولا (17/74) حرف امتناع لوجود؛ فمقاربة الركون منعتها لولا الامتناعية لوجود التثبيت من الله -جل وعلا- لأكرم خلقه صلى الله عليه وسلم؛ فصح يقينا انتفاء مقاربة الركون، فضلا عن الركون نفسه، وهذه الآية تبين ما قبلها، وأنه لم يقارب الركون إليهم البتة؛ لأن قوله: {لقد كدت تركن إليهم شيئا} (17/74). أي قاربت تركن إليهم، وهو عين الممنوع بـلولا الامتناعية كما ترى، ومعنى تركن إليهم: تميل إليهم.