روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبي ستة نفر، فقال المشركون للنبي: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. قال: وكنت أنا، وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان، لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه فأنزل الله -تعالى-: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}. وسمي الواحدي بقية الستة: وهم صهيب، وعمار بن یاسر، والمقداد بن الأسود، وخباب بن الأرت. وفي قول ابن مسعود «فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله» إجمال بينه ما رواه البيهقي أن رؤساء قرش قالوا لرسول الله: لو طردت هؤلاء الأعبد وأرواح جبابهم (جمع جبة)، جلسنا إليك وحادثناك. فقال: ما أنا بطارد المؤمنين. فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت، فقال: نعم، طمعا في إيمانهم. فأنزل الله هذه الآية.
ومعنى يدعون ربهم يعلنون إيمانهم به دون الأصنام إعلانا بالقول، وهو يستلزم اعتقاد القائل بما يقوله؛ إذ لم يكن يومئذ نفاق، وإنما ظهر المنافقون بالمدينة.
والغداة: أول النهار، والعشي من الزوال إلى الصباح، والباء للظرفية، والمعنى أنهم يدعون الله اليوم كله، فالغداة والعشي قصد بهما استيعاب الزمان والأيام كما يقصد بالمشرق والمغرب استيعاب الأمكنة.
وجملة ما عليك من حسابهم من شيء تعليل للنفي عن طردهم، أو إبطال لعلة الهم بطردهم، أو لعلة طلب طردهم.
– والمعنى: ما عليك من حساب المشركين على الإيمان بك أو على عدم الإيمان شيء؛ فإن ذلك موكول إليّ فلا تظلم المؤمنين بحرمانهم حقا لأجل تحصيل إيمان المشركين، فيكون من باب قوله -تعالى-: {إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا} (النساء: 135). ويفيد هذا الكلام التعريض برؤساء قريش الذين سألوا إبعاد الفقراء عن مجلس الرسول -عليه الصلاة والسلام – حين يحضرون، وأوهموا أن ذلك هو الحائل لهم دون حضور مجلس الرسول – عليه الصلاة والسلام- والإيمان به؛ فخاطب الله رسوله بهذا الكلام إذ كان الرسول هو المسؤول أن يقصي أصحابة عن مجلسه ليعلم السائلون أنهم سألوه ما لا يقع، ويعلموا أن الله أطلع رسوله – صلى الله عليه وسلم – على كذبهم، وهم لو كانوا راغبين في الإيمان لما كان عليهم حساب أحوال الناس ولاشتغلوا بإصلاح خويصتهم، فيكون الخطاب على نحو قوله -تعالى-: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر: 65). وقد صرح بذلك في قوله بعد {ولتستبين سبيل المجرمين} (الأنعام: 55)، أي حسابهم ليس عليك كما أن حسابك ليس عليهم بل على نفسك؛ إذ كل نفس بما گسبت رهينة، ولا تزر وازرة وزر أخرى.
وقدم البيان على المبين في قوله: وما من حسابك عليهم من شيء؛ لأن الأهم في المقامين هو ما يختص بالمخاطب المعرض فيه بالذين سألوه الطرد؛ لأنه المقصود بالذات، وإنما جيء بالجملة الثانية لاستكمال التعليل كما تقدم.
وقوله: فتكون من الظالمين عطف على فتطردهم متفرع عليه، أي فتكون من الظالمين بطردهم، أي فكونه من الظالمين منتف تبعا لانتفاء سببه وهو الطرد.
وإنما جعل طردهم ظلما؛ لأنه لما انتفى تكليفه بأن يحاسبهم صار طردهم لأجل إرضاء غيرهم ظلما لهم. وفيه تعريض بالذين سألوا طردهم لإرضاء كبريائهم بأنهم ظالمون مفطورون على الظلم.