طلب أن نلتقي منفرديْن بعيدا عن أجواء الحي والمسجد والناس كلهم، أخذني بمركبته إلى منزله الشاطئي، بلغنا المكان بعد صلاة العصر بساعة، كان صامتا معظم الوقت، وكان قد هاتف الخادم أن يجهز المكان، قبل وصولنا، وبالفعل كان المجلس تحت مظلة كبيرة على شاطئ البحر بمجموعة من كراسي الخيزران، تتوسطها طاولة وضعت عليها أنواع العصائر والفاكهة.
أخذنا مجلسنا، دعاني لتناول شيء، أشرت عليه بتأجيل موضوع الأكل والشرب، بعد صمت قليل:
– لا أدري من أين أبدأ، الحمدلله منذ متى تعرفني؟
– منذ قرابة العشر سنين.
– أنا رجل ميسور الحال كما تعلم، وثروتي أكثر مما تعرف، ولكني الآن في السبعين من عمري، لم أرث شيئا من والدي، كرست حياتي لجمع هذه الثروة، ليتسمتع بها أبنائي وأسرتي عموما، علاقتي بزوجتي ليست على ما يرام، ونحن منذ فترة طويلة لا نتشارك غرفة النوم، لها حياتها ولي حياتي.
كان يتحدث دون أن ينظر إلي، وكأنما يحدث نفسه، تابع حديثه:
– قبل شهر شعرت بألم حاد في صدري، لم يكن أحد في البيت، ابني مع أصدقائه في جولة أوروبية، وابنتي مع بنات خالاتها في باريس، وزوجتي مع والدتها للعلاج في الولايات المتحدة، رأيت الموت يحيط بي، وليس في البيت سوى الخدم والطباخ والسائق، اتصلت بهاتف الطوارئ (112) أتوا دون تأخير، رافقني سائقي إلى المستشفى، ثم التحق بي شقيقي، كانت أزمة قلبية، اكتشفت معها أني بحاجة إلى عملية، وبالطبع جهزت أموري لإجرائها في لندن.
– كان يحدثني بحرقة.
– المحزن في الأمر أنني وحيد مع ثروتي الطائلة، فجأة شعرت أني بحاجة إلى زوجتي وأبنائي وأسرتي، بحاجة إلى من يقف بجانبي دون أن يتذمر، ويسهر على راحتي دون أن يكل، ودون أن ينتظر مقابلاً، تذكرت قول الله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (البقرة:266).
وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (الروم:54).
تمنيت أن يرجع بي العمر، فأعمل غير الذي كنت أعمل، ترقرقت دمعة من عينه، حاول إخفاءها، وتظاهرت أني لم أرها.
– هون عليك يا أبا خالد، كلنا يصيبه ما أصابك؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من أرذل العمر، في حديث أنس بن مالك: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو أعوذ الله من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات» (البخاري)، وأنت على خير تحافظ على الصلاة وتزكي وتتصدق.
قاطعني:
– المشكلة أن أبنائي لا يروني إلا خزينة مال، وفي الفترة الأخيرة عندما انكشف خلافي مع والدتهم أخذوا موقفا مع والدتهم ضدي، حتى إن (خالداً) قال لي بلهجة فيها الكثير من الجفوة: «أنت الغلطان».
– أظن أن هذه العاقبة نتيجة طبيعية لسيرة حياتي، غفلت عن كثير من الأمور، لا أكاد أحفظ القرآن إلا ما أقيم به صلاتي، ولا أكاد أصلي إلا فرائضي، بجسدي، وقلبي وفكري في عمل دائم لتجارتي، الشهر الوحيد الذي أقضيه كاملا في الكويت هو شهر رمضان، وليتني أستغله في زيادة إيماني، إنما أؤدي فيه الواجبات الاجتماعية، أكثر من الواجبات الإلهية، هذه هي الحقيقة، وهذه هي النتيجة.
لم أعرف كيف أخفف عنه أو أرد عليه، وكأنما شعر بذلك.
– أنا لا أريد حلا لما أنا فيه، إنما أردت أن أتحدث إلى من أثق به، ويستمع إلي، وأنت أكثر إنسان أثق به.
– أسأل الله أن أكون عند حُسن ظنك.
– والحل.. بيدي.. أظن أنه لا زال أمامي متسع من الوقت لكي أستدرك شيئا مما فاتني قبل ساعة الرحيل، وإذا غيرت ما في نفسي سوف يغير الله أحوال من حولي، أنا على ثقة من ذلك.