– مما ينبغي علي العبد أن يتذكره دائما أنه (عبد)، ومخلوق ضعيف، خلق من (ماء مهين)، ولكن كثيرا من الناس ينسى هذه الحقائق، حتى يرى الموت، {وجاءت سكرة الموت بالحق}، بـ(الحق) إما صفة لسكرة الموت فلا مجال لامتداد الحياة بعدها، أو حال للموت؛ وذلك أن الموت مكتوب على كل مخلوق لا يتخلف عن أحد.

– نعم نغفل كثيرا عن هذه الحقيقة؛ ولذلك سن لنا الرسول صلى الله عليه وسلم زيارة القبور، نذكر أنفسنا بالمآل، ومع ذلك قليل من يتذكر.

كنت وصاحبي في طريق عودتنا من المقبرة بعد أن صلينا ودفنا أحد معارفنا.

– {إن الإنسان لربه لكنود}(العاديات: 6)، قالها صاحبي مستشهدا على حال الإنسان.

– لم خطرت على بالك هذه الآية؟

– لا أدري.

– هل تعلم معنى (الكنود)؟

– أظن أنه (الجحود)، أليس كذلك؟

– بلى معان عدة تدور جميعها حول هذا المعنى.

     أصل الكنود منع الحق والخير، والكنود الذي يمنع ما عليه، والأرض الكنود هي التي لا تنبت شيئًا، ثم للمفسرين عبارات، فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة: الكنود هو الكفور، قالوا: ومنه سمي الرجل المشهور كندة؛ لأنه كند أباه ففارقه، وعن الكلبي الكنود بلسان كندة العاصي، وبلسان بني مالك البخيل، وبلسان مضر وربيعة الكفور، عن أبي أمامة سمعته يقول: الكنود الذي يمنع رفده، وينزل وحده، ويضرب عبده.

قال الشيخ الألباني: ضعيف موقوفا وروي عنه مرفوعا بسند واه جدا.

     والمعنى أن طبع الإنسان يحمله على ذلك إلا إذا عصمه الله؛ فطبيعة الإنسان وجبلته وأن جنس الإنسان لولا هداية الله لكان كنودا لربه -عز وجل-، أي كافراً لنعمة الله -عز وجل-، يرزقه الله -عز وجل- فيزداد بهذا الرزق عتوا ونفورا، فإن أكثر الناس يطغى إذا رآه قد استغنى عن الله.

قال ابن عباس: إنها نزلت في قرط بن عبدالله بن عمرو بن نوفل القرشي، والقاعدة أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

– والمقسم عليه قوله: {إن الإنسان لربه لكنود}، أي: لمنوع للخير الذي عليه لربه، فطبيعة الإنسان وجبلته، أن نفسه لا تسمح بما عليه من الحقوق، فتؤديها كاملة موفرة، بل طبيعتها الكسل والمنع لما عليه من الحقوق المالية والبدنية، إلا من هداه الله وخرج عن هذا الوصف إلى وصف السماح بأداء الحقوق، وإنه على ذلك لشهيد أي: إن الإنسان على ما يعرف من نفسه من المنع والكند لشاهد بذلك، لا يجحده ولا ينكره؛ لأن ذلك أمر بين واضح. ويحتمل أن الضمير عائد إلى الله -تعالى- أي: إن العبد لربه لكنود، والله شهيد على ذلك، ففيه الوعيد، والتهديد الشديد، لمن هو لربه كنود، بأن الله عليه شهيد.

– {وإنه} أي: الإنسان {لحب الخير} أي: المال {لشديد} أي: كثير الحب للمال. وحبه لذلك، هو الذي أوجب له ترك الحقوق الواجبة عليه، قدم شهوة نفسه على حق ربه؛ وكل هذا لأنه قصر نظره على هذه الدار، وغفل عن الآخرة، ولهذا قال حاثا له علي خوف يوم الوعيد:

{أفلا يعلم} أي: هل يعلم هذا المغتر {إذا بعثر ما في القبور} أي: أخرج الله الأموات من قبورهم، لحشرهم ونشرهم.

     وفي تفسير ابن عثيمين رحمه الله: «والأظهر أن المراد به العموم، وأن جنس الإنسان لولا هداية الله لكان كنودا لربه -عز وجل-، والكنود هو الكفر، أي كافر لنعمة الله -عز وجل-، يرزقها لله -عز وجل- فيزداد بهذا الرزق عتوا ونفورا، فإن من الناس من يطغى إذا رآه قد استغنى عن الله، وما أكثر ما أفسد الغنى من بني آدم فهو كفور بنعمة الله -عز وجل-، يجحد نعمة الله، ولا يقوم بشكرها، ولا يقوم بطاعة الله لأنه كنود لنعمة الله. {وإنه على ذلك لشهيد} {إنه} الضمير قيل: يعود علي الله، أي أن الله -تعالي- يشهد على العبد بأنه كفور لنعمة الله.

وقيل: إنه عائد على الإنسان نفسه، أي إن الإنسان يشهد على نفسه بكفر نعمة الله -عز وجل-». انتهى.

– أليس هناك حديث يصف الله الإنسان فيه بالغدر.

– بلى، وذلك في الآخرة، لأن الإنسان إذا اشتدت حاجته لشيء ورغبته في شيء يعطي العهود والمواثيق في حينها دون أن يتأكد من الوفاء، ونص الحديث وهو حديث طويل هذا جزء منه:

     حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد، ويبقى رجل بين الجنة والنار وهو آخر أهل النار دخولا الجنة مقبل بوجهه قبل النار، فيقول يا رب اصرف وجهي عن النار، قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها فيقول: هل عسيت إن فعل ذلك بك أن تسأل غير ذلك؟ فيقول: لا وعزتك فيعطي اللهَ ما يشاء من عهد وميثاق؛ فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل به على الجنة رأى بهجتها سكت ما شاء الله أن يسكت ثم قال: يا رب قدمني عند باب الجنة فيقول الله له: أليس قد أعطيت العهود والميثاق ألا تسأل غير الذي كنت سألت فيقول: يا رب لا أكون أشقى خلقك، فيقول: فما عسيت إن أعطيت ذلك ألا تسأل غيره فيقول: لا وعزتك لا أسأل غير ذلك فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق فيقدمه إلى باب الجنة، فإذا بلغ بابها رأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور فسكت ما شاء الله أن يسكت فيقول: يا رب أدخلني الجنة فيقول الله: ويحك يا ابن آدم ما أغدرك أليس قد أعطيت العهود والميثاق ألا تسأل غير الذي أعطيت؟ فيقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك فيضحك الله -عز وجل- منه ثم يأذن له في دخول الجنة فيقول: تمنَّ فيتمنى حتى إذا انقطع أمنيته قال الله -عز وجل-: من كذا وكذا يذكره ربه حتى إذا انتهت به الأماني قال الله تعالى: لك ذلك ومثله معه» قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة -رضي الله عنهما- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال الله لك ذلك وعشرة أمثاله، قال أبو هريرة لم أحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قوله لك ذلك ومثله معه» قال أبو سعيد رضي الله عنه  أشهد إني سمعته  من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ذلك وعشرة أمثاله.

قال أبو هريرة وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولا الجنة» رواه البخاري.