يقول تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم:32-34).
– وما معنى (ظلوم كفار) في هذه الآية؟!
– دعني أقرأ لك شيئا من تفسير هذه الآيات التي ختمها الله -سبحانه- بقوله: {إن الإنسان لظلوم كفار}.
كنت وصاحبي بين العشائين نجرب برنامجا جديدا لتفسير القرآن على جهاز الحاسوب.
اعلم أنه لما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء وأحوال الأشقياء، وكان العمدة العظمى والمنزلة الكبرى في حصول السعادات معرفة الله -تعالى- بأسمائه وبصفاته، ختم الله تعالى وصف أحوال السعداء والأشقياء بالدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته، وذكر ههنا عشرة أنواع من الدلائل. أولها: خلق السموات، وثانيها: خلق الأرض، وإليهما الإشارة بقوله تعالى: {الله الذى خلق السموات والأرض}. وثالثها: {وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم}. ورابعها: قوله: {وسخر لكم الفلك لتجرى فى البحر بأمره} وخامسها: قوله: {وسخر لكم الأنهار}. وسادسها وسابعها: قوله: {وسخر لكم الشمس والقمر دآئبين}. وثامنها وتاسعها: قوله: {وسخر لكم الليل والنهار}. وعاشرها: قوله: {وآتاكم من كل ما سألتموه}، السماء والأرض من كم وجه تدل على وجود الصانع الحكيم؟ وقد بدأ بذكرهما ههنا؛ لأنهما الأصلان اللذان يتفرع عليهما سائر الأدلة المذكورة بعد ذلك؛ فإنه قال بعده: {وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم}.
لولا السماء لم يصح إنزال الماء منها ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه، فظهر أنه لا بد من وجودهما حتى يحصل هذا المقصود وهذا المطلوب.
قوله: {وأنزل من السماء ماء} فيه قولان: الأول: أن الماء نزل من السحاب، وسمي السحاب سماء اشتقاقا من السمو، وهو الارتفاع.
وهو -سبحانه- أخرج هذه الثمرات بواسطة هذا الماء المنزل من السماء على سبيل العادة؛ وذلك لأن في هذا المعنى مصلحة للمكلفين؛ لأنهم إذا علموا أن هذه المنافع القليلة يجب أن تتحمل في تحصيلها المشاق والمتاعب، فالمنافع العظيمة الدائمة في الدار الآخرة أولى أن تتحمل المشاق في طلبها، وإذا كان المرء يترك الراحة واللذات طلبا لهذه الخيرات الحقيرة، فلأن يترك اللذات الدنيوية ليفوز بثواب الله -تعالى- ويتخلص عن عقابه أولى.
قوله: {وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره}.
إن الانتفاع بما ينبت من الأرض إنما يكمل بوجود الفلك الجاري في البحر؛ وذلك لأنه -تعالى- خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من أنعمه لينقل خير هذا الطرف إلى الآخر وهذا النقل لا يمكن إلا بسفن البحر وهي الفلك.
قوله تعالى: {وسخر لكم الأنهار} اعلم أن ماء البحر قلما ينتفع به في الزراعات لا جرم ذكر الله -تعالى- إنعامه على الخلق بتفجير الأنهار والعيون حتى ينبعث الماء منها إلى مواضع الزرع والنباتات، وأيضا ماء البحر لا يصلح للشرب والصالح لهذا هو مياه الأنهار.
قوله: {دآئبين} معناه يدأبان في سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما في إزالة الظلمة وفي إصلاح النبات والحيوان؛ فإن الشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل، ولولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكلية، قوله: {وآتاكم من كل ما سألتموه} ثم إنه- تعالى- لما ذكر تلك النعمة العظيمة بين بعد ذلك أنه لم يقتصر عليها، بل أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها التعديد والإحصاء فقال: {وآتاكم من كل ما سألتموه} آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه، ولم تصلح أحوالكم ومعايشكم إلا به، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال، ثم إنه -تعالى- لما ذكر هذه النعم ختم الكلام بقوله: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}.
ومعنى قوله: {لا تحصوها} أي لا تقدرون على تعديد جميعها لكثرتها. {إن الإنسان لظلوم كفار} قيل: يظلم النعمة بإغفال شكرها؛ فهو كفار شديد الكفران لها، وقيل: ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع، والمراد من الإنسان ههنا: الجنس.
قال في هذا الموضع: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} وقال في سورة النحل: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}(النحل: 18)، كأنه يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت الذي أخذتها، وأنا الذي أعطيتها؛ فحصل لك عند أخذها وصفان: وهما كونك ظلوما كفارا، ولي وصفان عند إعطائها وهما كوني غفورا رحيما، والمقصود: إن كنت ظلوما فأنا غفور، وإن كنت كفارا فأنا رحيم أعلم عجزك وقصورك؛ فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوقير، ولا أجازي جفاءك إلا بالوفاء.
استوقفني صاحبي: إذاً من الخطأ أن يوصف أمر بأنه لا يَعُدَّ ولا يحصى؛ حيث إن الإنسان يستطيع أن يعد شيئاً فيحصن، وقد يَعُدُّوه فلا يحصن لكثرته.
– نعم كلامك صحيح، ودعني أقرأ لك تفسيرا آخر قبل أن يؤذن للعشاء في تفسير السعدي:
وإن تعدوا أيها الناس نعمة الله التي أنعمها عليكم لا تطيقوا إحصاء عددها، والقيام بشكرها إلا بعون الله لكم عليها. {إن الإنسان لظلوم كفار} يقول: إن الإنسان الذي بدل نعمة الله كفرا لظلوم: يقول: لشاكرٌ غيرَ مَنْ أنعم عليه؛ فهو بذلك من فعله واضع الشكر في غير موضعه؛ وذلك أن الله هو الذي أنعم عليه بما أنعم، واستحق عليه إخلاص العبادة له، فعبد غيره وجعل له أندادا ليضل عن سبيله، وذلك هو ظلمه، وقوله: (كفار) يقول: هو جحود نعمة الله التي أنعم بها عليه لصرفه العبادة إلى غير مَن أنعم عليه، وتركه طاعة من أنعم عليه.