يقول ابن القيم في طريق الهجرتين: «فمعرفة هذه الأسماء الأربعة: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، هي أركان العلم والمعرفة؛ فحقيق بالعبد أن يبلغ في معرفتها إلى حيث ينتهي به قواه وفهمه».

     ويقول في موضع آخر: «فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة، وهي إحاطتان: زمانية، ومكانية؛ فإحاطة أَوليَّتِه وآخريَّتِهِ بالقبل والبعد، فكل سابق انتهى إلى أوليته، وكل آخر انتهى إلى آخريته، فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر، وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن؛ فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله دونه، وما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده.

كنت أقرأ لصاحبي، لاحظت أنه فقد الاهتمام والمتابعة.

– كلام جميل، ولكني بصراحة أشعر أن هذا الكلام أعلى من مستوى فهمي للغة العربية، وأريد أن أفهم هذين الاسمين من الأسماء الحسنى بأسلوب سهل يتناسب وقدراتي العلمية واللغوية.

أضحكني تعليقه!!

     سأحاول إن شاء الله، أولا ذكرنا سابقا أن هذه الأسماء فصل بينها بحرف العطف (الواو)، بينما الأسماء الأخرى لا حرف عطف بينها، فلم يرد في كتاب الله (الغفور والرحيم)، وإنما ورد (الغفور الرحيم)؛ وكذلك في سائر الأسماء الحسنى (العزيز الجبار المتكبر)، (الخالق الباري المصور)، عدا هذه الأسماء فإنها وردت (هو الأول والآخر والظاهر والباطن)، ولاشك أن (الواو) التي بين (الأول والآخر) غرضها يختلف عن الواو بين (الآخر والظاهر) فيجب أن نجمع بين (الأول والآخر) و(الظاهر والباطن) وليس بين (الآخر والظاهر).

– ها أنت ذا تتحدث بأسلوب لا أفهمه مرة أخرى،

– دعنا نركز على (الظاهر والباطن) لقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم معنى هذين الاسمين بأن (الظاهر) الذي ليس فوقه شيء، و(الباطن) الذي ليس دونه شيء (أي لا شيء أقرب منه)، وهذا (الدنو) لله -عز وجل- ليس دنو ذات فهو -سبحانه- مستو بذاته على عرشه فوق سبع سموات؛ وإنما دنو علم؛ ولذلك ختم الله الآية من سورة الحديد بقوله سبحانه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(الحديد: 3)؛ حتى لا يتوهم أحد قرب الذات، وإنما العلم.

هذه واحدة.

     والنقطة الثانية: أن هذين الاسمين فضلا بحرف العطف (الواو)؛ وذلك أنهما يدلان على صفتين متقابلتين لله عز وجل، فإذا قلت هو (الظاهر) سبحانه ينصرف الذهن إلى فوقية الله وعلوه سبحانه؛ ولذلك أتى بما يثبت الصفة المقابلة (الباطن) وكما ذكرنا سابقا من جمال اللغة العربية أنه: «كلما كان التغابر أبين، كان العطف أحسن».

فإنه إذا علم العبدأن الله هو (الظاهر) ربما سرى الوهم إلى أن الباطن مقابلة؛ فقطع هذا الوهم بحرف العطف (و) الدال على أن الموصوف بـ(الظاهر) هو الموصوف بـ(الباطن) ومعناه «هو الظاهر وهو الباطن» لا أحد غيره سبحانه -عز وجل-.

دعني أقرأ لك شيئا من كلام ابن القيم في بدائع الفوائد.

دخول الواو ههنا أن هذه الصفات متقابلة متضادة، وقد عطف الثاني منهما على الأول للمقابلة التي بينهما، والصفتان الأخريان كالأوليين في المقابلة، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة الآخر إلى الأول؛ فكما حسن العطف بين الأوليين، حسن بين الأخريين.

لم يعلق صاحبي لا سلبا ولا إيجابا، سألني:

– لنتحدث عن التعبد بهذين الاسمين (الظاهر والباطن).

– لاشك أن من إحصاء هذين الاسمين وبعد معرفة معنى (الظاهر) ومعنى (الباطن) أن يعتقد العبد ألا شيء فوق الله مكانا ومكانة؛ فيثبت لله الفوقية، ويؤمن بذلك ولا يرفع أحدا إلى مستوى الألوهية، فلا أحد مع الله، هو سبحانه (الظاهر) وحده سبحانه، وهو (الباطن) فليس دونه شيء بعلمه {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}(ق: 16) هذا القرب بعلمه يدفع العبد إلى مراقبة باطنه؛ لأن علم الله محيط به، فإذا صلح باطن العبد بمراقبه (الباطن) سبحانه صلحت كل أحواله.